بقي جاك دريدا (15 تموز/ يوليو 1930 ـــ 9 تشرين الأول/ نوفمبر 2004) متمسكاً بأفكاره وهو على حافة الموت، وبالقوة نفسها التي واجه بها أسس التفكير الغربي المستقرة على مدى قرون. استطاع أن يجابه حَرْبَهُ مع نفسه إثر سرطان البنكرياس الذي أصابه أواخر حياته، لأنه يؤمن بأن «التفلسف هو تعلم الموت» بحسب وصية أفلاطون. وبالتالي، فإن «تعلُّم العيش ينبغي أن يعني تعلُّم الموت، وأن نأخذ في الحسبان الفناء المطلق». ورغم إيمانه بهذه الحقيقة، إلا أنه بقي غير قادرٍ على التسليم بها، ولا سيما أنه يعتبر أننا جميعاً «فانون مُنحوا إنقاذاً مؤقتاً».
جاك دريدا

يقول دريدا في آخر حوار صحافي أجراه جان برنباوم لمصلحة جريدة «لو موند» (نُشِرَ بتاريخ 19/8/2004) أي قبل وفاته بأقل من شهرين: «أنا في حرب مع نفسي، أقول أشياء متناقضة، يمكن أن نقول عنها: أشياء في توتر حقيقي. إنها ما يكونني، ما يجعلني أعيش، وسيجعلني أموت. أحياناً أرى هذه الحرب مرعبة ويصعب تحملها، لكن في الوقت عينه أعرف أن هذه هي الحياة. سأجد السلام فقط في الراحة الأبدية. أنا بهذا لا أقول إني أفترض هذا التناقض، لكني أعرف أنه ما يبقيني حياً، ويجعلني أسأل على وجه التحديد (كيف يتعلم الإنسان أن يعيش؟)»
يرى رائد التقويضية أن «تعلم العيش هو دائماً أمر نرجسي»، وأن البقاء حِدادٌ تأسيسي لا ينتظر ما يسمى الموت الفعلي، فالسؤال عن الموت لا ينفصم عنده عن كونه سؤالاً عن الكينونة والعيش، وصعوبته تكمن في كونه حالة يتعذَّر تحويلها إلى موضوع للدراسة من دون الإخلال بها. مع ذلك، فإنه ينظر إليه كصيغة تأسيسية للثقافة والتاريخ والحضارة البشرية، وخاصة أن فكر صاحب «الكتابة والاختلاف» أساساً لا يسعى لتسوية التوترات المعرفية أصلاً، ولا لإبقائها، بل لإبرازها وإثارتها، باعتبار التوتر نفسه شرط معرفة ضرورياً. وهو ما يبرز بصورة جلية في التنافر العميق مع علاقة الأنا ـــ العالم، سواء سميناها ذاتاً/ موضوعاً، أو وعياً/ عالماً، أو أنا/ وجوداً.
يتكرر ذكر الموت ضمن حوار دريدا في «لو موند» فهو يُدافع عن صعوبة كتاباته ويعتبر ولاءه لها نوعاً من الحفاظ الغريزي على الذات، إذ يقول «أعيش موتي في الكتابة. أن أُسأل أن أرفُض ما شكَّلني، ما أحببته كثيراً جداً، ما كان قانونياً، هو أن أُسأل أن أموت». من هنا، يرفض صاحب «في علم الكتابة» أي تبسيط في صياغة أفكاره وشكل كتابته، إلى درجة أنه يراه «سفالة غير مقبولة»، أو كما عبَّر عنه «أن أُسأل أن أموت بسبب الغباء»، داعياً إلى الاستعداد لحرب لا هوادة فيها ضد «الدوكسا... Doxa» وهم مثقفو وسائل الإعلام المنخرطون في آليات إقناع الرأي العام والتأثير فيه في عصر تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وضد خطابهم المرتّب مسبقاً بقوى الميديا التي تتحكم بها لوبيات أكاديمية، تحريرية، سياسية، اقتصادية، أوروبية وعالمية في الوقت ذاته.
«في ذات مفكرة مجبولة على التساؤل، يأخذ اقتراب الموت معنى مضاعفاً، كثافة إضافية»، هذا ما يقوله الباحث والمترجم والشاعر العراقي نصير فليح (1962) في كتاب «ميراث الغائب» (دار نينوى 2018): «إن حرب دريدا مع نفسه وقوله لأشياء متناقضة، وفي توتر حقيقي، هي في نفس الوقت ما يكونه، يحيلنا بقوة إلى طبيعة تقويضيّته نفسها، التي تبقي على هذه التوترات قائمة في مقاربتها لسؤال المعرفة، «حيث الدالّ لا يُفضي إلى مدلول نهائي، والاختلاف يظل مُرجأ، وفَضْلة النسق فضلة محتملة. فحل التناقضات أو التوترات حلاً نهائياً، هو بالذات ما صوَّبت التقويضية نيرانها نحوه»، مؤكداً أن التقويض دائماً مع جانب تأكيد الحياة، وكل حديث عن البقاء كتركيب من التعارض حياة/ موت، ينبع من تأكيد غير مشروط للحياة. فالبقاء ــ بحسب دريدا ـــ ليس ببساطة ما يتبقى، وإنما أكثر الحيوات الممكنة كثافةً. ووفق هذا المعنى، يكون التقويض امتداداً لمشروع التنوير الأوروبي، للنقد الذاتي المستمر والمراجعة المستمرة».
يبيّن فليح أفضلية مُصطلح «التقويض» على فلسفة دريدا عن «التفكيك»، فالتفكيك يوحي بالتقيد بالبنى والأنساق الكامنة في الشيء أو الموضوع، بفكه إلى مكوناته الأولية، التي تم بناؤه وتركيبه على أساسها. وبالتالي، فإنه يجري، إذا جاز القول، باتجاه عكسي على خطوط تكوين الموضوع من بنى وأنساق متضمنة أو معلنة، متعقباً آثارها باتجاه عكسي. في المقابل، فإنّ مفهوم «التقويض deconstruction» ـــ من الأساس ومن نقطة المنطلق نفسها ــ لا يتقيد بالبنى والأنساق الموجودة». وعلى هذا الأساس، فإن التقويضية لن تؤدي إلى حالة من العشوائية المفضية إلى اللامعنى، بحسب زعم مناهضيها، بل إلى الكشف عن توترات وتناقضات هي مستودع ورصيد ومنطلق لمعرفة ما يخفيه النص أو المبنى أو الخطاب. بمعنى أن «ما تم تقويضه ليس المعنى، بل التناسق المزعوم للمعنى، ويجترح في الوقت ذاته تصوراً آخر عن المعنى، يجعله غير نهائي، غير مستقر، ديناميكي، توليدي، لكنه يظل قابلاً للإدراك والتداول، إذا استطعنا أن نغير طرائقنا في التفكير».

ألان باديو

يقول فليح: «يمكن تصور التقويضية كأنها تُحيل المركز التقليدي للمعنى إلى مراكز غير مستقرة تتعدد بتعدد المقاربات والقراءات، كأنها نُوى تتكاثر داخل الجسد الهلامي للنص المُقوَّض. وعندها تفقد سلطة المعنى طابعها الراسخ، وتتحول الحقائق إلى محض مقاربات، ولا يمسي الموضوع – أي موضوع ـــ عندها منطوياً على حقائق كامنة، بل مجرد توليدات مستمرة لدلالات غير نهائية. وهي هنا تختلف عن الاتجاهات التأويلية كثيراً، في أنها تضع النص ووحدته الظاهرية وتماسكه الداخلي تحت مجهر تناقضاته نفسها، وليس المعنى أو الطريقة التي يتم تأويله بها فحسب. عمله فيه شيء من الشبه بمهمة لا نهاية لها من التفكير في «ما وراء الفلسفة»، مهمة تفتح الإرث الفلسفي إلى «ما وراءه»، فالطموح في نص دريدا هو أن يعطي الفلسفة مستقبلاً، عبر تقويض مركزية اللوغوس والمركزية الصوتية وميتافيزيقيا الحضور التي حكمت الفكر الغربي».
وإذا كانت فلسفة دريدا قد اتهمت بنزوعها الريبي، حتى مقارنة بالمعايير الفلسفية والمنطقية للحقيقة في زمنه، فإن فلسفة باديو تسير باتجاه معاكس تماماً، بحسب فليح. إذ إنها «تعيد تأصيل مفهوم الحقيقة، وبالتالي فإن حدة التعارض من هذا المنظور تأخذ بعداً أشد جذرية. وبخلاف تركيز دريدا على النص، وانحيازه للكتابة، فإن باديو يريد إعادة الفلسفة إلى الحياة مباشرةً. كما يرى أن تنامي الشعري في جسد النص الفلسفي كما هي الحال عند نيتشه، مروراً بهيدغر، وصولاً إلى دريدا، تعبير عن التعثر الفلسفي الذي عاشته الفلسفة في حقبة لم تستطع أن تتقدم بها الخطوة الضرورية إلى الأمام، وليكون التضخم الشعري داخل جسد النص الفلسفي أشبه بنوع من تعويض لفراغ عجزت الفلسفة في العقود الماضية عن ملئه».
بخلاف تركيز دريدا على النص، أراد باديو إعادة الفلسفة إلى الحياة مباشرة


وإن كان فليح يعتقد بأن نصوص دريدا تطمح إلى أن تُعطي الفلسفة مستقبلاً، فإنه يرى في فلسفة باديو أشبه بنوع من «صحوة فلسفية» بعد تعثر طويل في قدرة الفلسفة على مواكبة عصرها، وخاصة أنه يعتبر النزوع الريبي العدمي منذ نيتشه، وصولاً إلى اتجاهات التأويلية وما بعد البنيوية بما في ذلك التقويضية نفسها، نوعاً من السفسطة، نجمت عن قصور الفلسفة عن القيام بدورها في التقدم ولو خطوة نحو الأمام. وهو يؤكد أن الفلسفة «راعية للحقيقة»، وعليه فإنه يُطلِق عبارته الشهيرة «الرياضيات هي الأنطولوجيا»، إذ يجعل من كشف الحقائق الذي تقوم به الفلسفة مرتبطاً دون انفصام بالرياضيات.
مقاربات كثيرة بين الفلسفتين تضمّنها كتاب «ميراث الغائب»، فإن كانت الرياضيات تؤسس لطبيعة الوجود الأولية عند باديو، فإن اللغة الفرنسية هي أساس الكينونة عند دريدا. لشدة حبه لها ولطبيعة مشروعه الفكري نفسه، سعى إلى أن يترك أثراً فيها، في سياقاتها وبنيتها ومسار حياتها نفسه. وفي هذا السياق، يقول: «وكما أني أحب الحياة، وأحب حياتي، فإني أحب ما جعل مني ما أنا عليه، وعنصره الأساسي هو اللغة، فالحب بصورة عامة يمر في طريقه على حبّ اللغة».