ثمة سؤال، غالباً ما يطرحه المهتمون بالأدب: هل علينا أن ننشر (بعد رحيل كاتب ما)، ما لم ينشره في حياته؟ أي إصدار تلك «المخطوطات» التي تكون غارقة في عتمة الأدراج، والتي لم يَعمَد، هو نفسه، إلى إخراجها للنور ولمّا بعد على قيد الحياة؟ سؤال، لم يجد أيّ «حل» متفق عليه لغاية اليوم، إذ تتنوع التأويلات.

منهم من يرى: إذا كان الكاتب نفسه غير راض عن هذه المخطوطات، والدليل أنه تركها غارقة في دهاليز مكتبه، فلماذا يُقدم ورثته، على «ارتكاب» ما لم يسمح لنفسه القيام به. على الطرف المقابل، يجد آخرون، أنه مهما تعدّدت الظروف والآراء، يجب نشر كلّ شيء، في حال وجود كتابات غير منشورة بالطبع؛ إذ يتيح لنا ذلك، معرفة درجة تطور أسلوب الكاتب وفكره. ما يسمح للدارسين والنقاد بتكوين صورة واضحة عن آليات عمله، على الرغم من أن المخطوط المهمل، قد يكون أحياناً، بعيداً عن مستوى ما نشر. وثمة من يضيف، أنّه من غير الضروري أن تكون كل المخطوطات التي لم تنشر هي مخطوطات عادية، غير صالحة للنشر. إذ قد تحوي على روائع لم ينتبه لها الكاتب نفسه، ويعطون على ذلك مثال كافكا الذي طلب من ماكس برود إحراق كلّ ما كتبه، لكن صديقه رفض ذلك، لنكتشف هذه القامة العظيمة في الرواية المعاصرة.
نطرح هذا السؤال مجدداً مع صدور خمسة كتب (دار نلسن) دفعة واحدة، للكاتب والمسرحي والناقد والشاعر الراحل عصام محفوظ (1939 ـ 2006). الفكرة الأولى التي طرحناها آنفاً لا تنطبق على هذه الكتب. هي «مخطوطات ما» بمعنى إذا اعتبرنا أن بعضها لم يُنشر من قبل في كتاب، بالإضافة إلى أن بعض هذه الكتب إعادة صوغ لكتب سابقة للمؤلف. لكن مثلما يتبين أمامنا أن الكاتب الراحل كان أعدّها للنشر، ولم يسعفه الوقت ليدفع بها إلى الصدور، فبقيت حبيسة لمدة 12 سنة بعد وفاته، قبل أن تقدم الدار المذكورة على إعادة تقديمها إلى القارئ. من هنا، لا يمكن اعتبار عملية النشر هذه كأنها ضد رغبة محفوظ نفسه، بل تأتي لتكمل عملاً بقي «ممنوعاً من الصرف» لأسباب عديدة، قبل أن يجتمع بعض أصدقاء الراحل وأخوه والدار ليحققوا أمنيته في نفض الغبار عنها ونشرها.

بيكيت ودوراس
نقول «نفض الغبار عنها»، بمعنى أن هناك بعض نصوص هذه الكتب تعود إلى ستينيات القرن الماضي، وتحديداً مسرحية بيكيت «بانتظار غودو» ورواية «زهرة المستحيّة» (العنوان الأصلي للكتاب «العاشقة الإنكليزية»، وهي الزهرة التي تذبل كلما مسها شخص وقد أطلق عليها الفرنسيون اسم «العاشقة») لمارغريت دوراس.
نص بيكيت هو الترجمة العربية للمسرحية التي قدمت في شهر شباط (فبراير) عام 1967 على خشبة «مسرح بيروت» من إخراج شكيب خوري الذي شاركه التمثيل بها كلّ من روجيه عساف ونبيه أبو الحسن ورينيه شمالي وصلاح فاخوري. ووفق ريبرتوار المسرح اللبناني، شكلت تلك المسرحية واحدة من العلامات الفارقة في مسيرة هذا المسرح، بخاصة أنها المرة الأولى التي كانت تقدم فيها تلك المسرحية في قطر من أقطار العالم العربي.
وإذا كانت مسرحية بيكيت لا تزال حاضرة على خشبات مسارح العالم لغاية اليوم، وفي قلب ثقافته، نظراً لكلّ ما تمثله من مفاصل ساهمت في تغيير الرؤى المسرحية عند كثيرين، تبدو رواية مارغريت دوراس اليوم، كأنها اختفت من التداول بعض الشيء، إذ ثمة كتب أخرى لها، تتمتع بشهرة أكبر.
هذه الرواية ترجمها محفوظ عام 1967 أيضاً (وقد صدرت ذاك العام بالفرنسية)، ونشرها لاحقاً على حلقات في مجلة «الحسناء» التي كانت تصدر آنذاك عن «دار النهار»، قبل أن يحولها إلى مسرحية إذاعية بُثت من «إذاعة لبنان» على سبع حلقات من إخراج شكيب خوري...
يميل كثير من نقاد الأدب إلى اعتبارها رواية استثنائية في أعمالها، إذ حوت عملية الكتابة فيها نوعين، هما التحقيق الصحافي والكتابة الروائية التي تتحدث عن امرأة «مخبولة» تدعى كلير لان قامت بقتل ابنة خالها ماري – تيريز بوسكيه بسبب شعورها بالغيرة منها على زوجها بيير لان بعدما أمضيا معاً عشرين سنة، لتوزع أشلاءها في عربات القطار بكل اتجاه، محتفظة بالرأس.
تتشكل تقنية الكتابة في هذه الرواية من حوارات مع ثلاثة أشخاص أجرتها دوراس حول الجريمة (قرأت عنها خبراً منشوراً في صحف تلك الفترة)، وهؤلاء الثلاثة هم روبير لامي (صاحب المقهى الذي تمّ الاعتراف بالجريمة فيه) وزوج القاتلة ثم القاتلة نفسها. يقول محفوظ في المقدمة التي أعدها لصدور هذا الكتاب إن دوراس عادت وانتبهت إلى البُعد المسرحي في نصها الروائي هذا، لتعيد كتابته للمسرح، حيث قدمتها فرقة «رينو بارو» بإخراج كلود ريجي وقامت بدور كلير الممثلة الشهيرة مادلين رينو.
من الإضافات التي نجدها في هذا الكتاب، ترجمة حوار مع دوراس نشرته مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» قبل سنة من وفاة الكاتبة تحدثت فيه عن «موتها الأول». والمقصود بهذا الموت، سقوط الكاتبة في «الكوما» (الغيبوبة) جراء إدمانها على الكحول، حتى ظنّ بعضهم أنها سترحل، لكنها يومها استطاعت مقاومة الموت، لتحيا من جديد وتنشر عدداً من الكتب.
قد تكون الملاحظة المشتركة بين الترجمتين اللتين بين أيدينا، أن محفوظ نقل النصيّن إلى العربية، ببعض التصرف. لا يمكن اعتبار ذلك خيانة مطلقة للنص الأصلي (وإن كانت كذلك في واقع الأمر). ما نقصده أن ترجمات محفوظ، وبخاصة تلك التي ترتكز إلى الحوارات، كانت تبحث عن بديل عربي للنص الأصلي، أي كان جلّ عمله يرتكز إلى إيجاد سياق للكلام يُقدم على خشبة المسرح. حتى في كتبه الحوارية المتخيلة مع رواد النهضة العربية وابن عربي وغيره، كان الحوار هو الأساس. بهذا المعنى، بقي محفوظ مخلصاً للغته المسرحية وقد حاول استدراج كلَ ما يترجمه إلى هذا السياق الحواري. أي يتشكل المسرح ــ وقبل أي شيء ــ من عملية الحوار بين أشخاص.

الثقافة والحرب والمسرح
ثالث كتاب تتشكل منها هذه القائمة المحفوظية، «الكتابة في زمن الحرب» هي الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990). من تابع ما يكتبه عصام محفوظ في صحيفة «النهار»، لا بدّ من أن قرأ بعض ملاحظاته على كتب وأعمال وأفلام ومسرحيات تلك الفترة. كانت مقالات صغيرة فيها رأي كاتب وأحد صانعي الثقافة في لبنان، أكثر مما هي عرض. ما يفعله محفوظ في هذا الكتاب، إعادة تجميع تلك المقالات، لكنه يضعها في سياق متسلل لتشكل مجموعة من الدراسات. بمعنى أنه يأخذ ما كتبه مثلاً عن الشعر، ليضع له مقدمة، ويبدأ بالحديث عن الشعر من خلال الكتب التي تناولها. وهكذا دواليك مع باقي الفنون والأنواع، مع العلم أنه يحدد تلك الكتابات في إطار زمني محدد هو إطار الحرب اللبنانية مثلما أسلفنا. وإذا كان هذا الكتاب يتناول ما أنتج من ثقافة في لبنان في تلك الفترة، يأتي الكتاب الرابع «باريس السبعينات، لقاء الشرق والمغرب» ليتشكل من بعض الكتابات حول أدباء عرب وغربيين التقاهم في باريس ونشرها في «مجلة النهار العربي والدولي» التي كانت تصدر في العاصمة الفرنسية حيث أقام بعد بداية الحرب في لبنان.
«الكتابة في زمن الحرب» يتضمن ملاحظاته على كتب وأفلام ومسرحيات تلك الفترة


كان محفوظ قد جمع غالبية هذه المقالات التي نشرها في باريس في كتابين سابقين له هما «مشاهدات ناقد عربي في باريس» و«لقاءات شخصية مع الثقافة الغربية». وما هذا الكتاب سوى مقتطفات من هذين الكتابين السابقين، رغب في أن يكون، وكما يقول في مقدمته، «شاهداً عن تلك المرحلة الباريسية في مسيرة الثقافة العربية». ويشرح هذه المرحلة الباريسية إنه في الحرب اللبنانية، فقدت بيروت دورها كمنبر إعلامي للعالم العربي كما شهدت عزلة القاهرة عربياً بعد الصلح (اتفاقيات كامب ديفيد) ما سمح لباريس باستعادة دور طالما لعبته في كل مراحل التأزم في مسيرة الثقافة العربية منذ مطلع عصر النهضة، لدورها المتوسطي من جهة، ولأنها كانت دوماً عاصمة الحريات في العالم. في أي حال، ربما يتوجب النقاش اليوم في مفهوم هذه الحرية التي يتحدث عنها محفوظ، إزاء الدور الاستعماري الجديد التي تلعبه فرنسا، في عدد كبير من أزمات الشرق الأوسط.
الكتاب الخامس والأخير، «سيناريو المسرح العربي في مئة عام»، يليه «المهرجانات المسرحية العربية». وهو كالكتاب السابق من حيث تشكله، أي إن محفوظ اختار من كتابين سابقين له هما «سيناريو المسرح العربي» و «المسرحي والمسرح»، ليؤلف من هذه المختارات كتاباً جديداً تتمحور فكرته حول إشكالية تلفت الانتباه، إذ يعتبر محفوظ أنه خلال عمله على تقديم المسرح العربي، تفاجأ أنه خلال فترة الاستقلالات للأقطار العربية المختلفة التي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كان المسرح العربي لبنانياً أو «الأصح كان مسرح اللبنانيين في مختلف الأقطار العربية».
خمسة كتب (مشكورة عليها «دار نلسن»)، تعيد لنا الكثير من إشكاليات عصام محفوظ التي كان يتابعها كتابة وترجمة ورأياً. ونعيد معها اكتشاف ذاكرة جيل كامل واكتشاف مشروع كان يمكن له أن يأخذ أبعاداً أخرى، لولا أن الحرب أتت لتقضي على كثير من أحلام تلك الفترة أولها حلم وطن لا نعرف أين حطّ به الزمان اليوم.