تونس | منذ ثلاث سنوات، يشهد المسرح التونسي ولادة أعمال تستعيد تاريخ البلد الحديث والمعاصر، وخصوصاً في لحظاته الثورية من خلال سيرة الأبطال الذين انتفضوا ضد السلطة المركزية، سواء العرش الحسيني (كانت تونس مملكة تحكمها العائلة الحسينية لغاية إعلان النظام الجمهوري عام ١٩٥٧) أو دولتي الاستقلال الأولى والثانية أو الاستعمار الفرنسي.
في هذا التاريخ من المحن والسجون والدماء، تبقى أشهر انتفاضة تلك التي قادها علي بن غذاهم من قبيلة الفراشيش (محافظة القصرين منذ الاستقلال) المعروفة بثورة «العربان». يومها، انتفضت قبائل الفراشيش والهمامة وماجر المقيمة بين محافظات قفصة وسيدي بوزيد والقصرين ضد سلطة محمد الصادق باي حاكم البلاد، ورفضت دفع الضرائب. كان علي بن غذاهم زعيم هذا التمرد، لذلك لقِّب بـ«باي العربان» في مواجهة الحاكم الفعلي للبلاد الذي كان يسمّى «الباي» (السلطان). الانتفاضة التي تواصلت من ١٨٦٤ إلى ١٨٦٦، قُمعت بقسوة ودموية بعد إلقاء القبض على علي بن غذاهم وإعدامه عام ١٨٦٧.
عديدة هي نقاط التقاطع بين انتفاضة علي بن غذاهم والانتفاضة التي فجّرها الشاب محمد البوعزيزي. هما ينحدران من المنطقة نفسها، والأسباب التي فجرت انتفاضة بن غذاهم هي نفسها التي فجرت انتفاضة المهمشين في ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠. لذلك حازت «علي بن غذاهم باي الشعب» (إنتاج المركز الوطني للفنون الدرامية والركحية في قفصة) اهتماماً واسعاً أخيراً في تونس. المسرحية أخرجها صابر الحامي، وألّفها الشاعر والكاتب الأغزر إنتاجاً بوكثير دومة، وأدّتها مجموعة من الممثلين من قدماء فرقة قفصة التي قدم فيها الفاضل الجعايبي عمله الأول «محمد علي الحامي» عام ١٩٧١ ومجموعة من متخرجي المعهد العالي للفنون المسرحية في تونس والمعهد العالي للمسرح والموسيقى في الكاف.
بعد سنوات من طغيان المونودراما على الركح التونسي، عاد صابر الحامي الى المسرح الملحمي بمفرداته البريشتية، فقدم عملاً جمع الموسيقى والغناء والشعر والضوء الذي لعب دوراً درامياً في البناء المسرحي.
حوّل الحامي الركح الى سجن كبير في إشارة إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها التونسيون إبان ثورة بن غذاهم، فلا نكاد نسمع إلا السلاسل وصراخ المساجين والنساء المغتصبات عندما عمد رجال الصادق باي الذي وقّع على وثيقة الاستعمار الفرنسي لتونس عام ١٨٨١ الى اغتصاب حرائر القبائل التونسية المنتفضة ضد الاستبداد والقهر والقمع. المسرحية قراءة أنثروبولوجية في إبراز انتفاضة عاشتها تونس في تاريخها الحديث قبل الانتفاضة التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي.
وقد اختار الحامي أقدم ممثلي فرقة قفصة حمزة داود لتجسيد دور «باي الشعب» الذي أُعدم في القلعة الإسبانية في ضاحية حلق الوادي المعروفة بـ«الكراكة». المسرحية التي تواصل عروضها في تونس، ستكون محطة مهمة في المشهد المسرحي التي أصبحت فيه المبادرة للأسماء الجديدة بعد ترهّل التجارب التي قدمت المسرح التونسي الى العالم العربي.