يمكن بكل سهولة، توثيق يوم الأحد الماضي، كبداية مرحلة جديدة وعلنية في تاريخ «الصراع العربي - الإسرائيلي» بعد سنوات من الجهد السعودي الحثيث على تثبيت فكرة أن «إسرائيل»، باتت خارج معادلة الاحتلال والعداء. عمل دؤوب شهدناه في السنوات الأخيرة الماضية، بلغ أوجه إبان الأزمة السورية، وسط تحركات سياسية وديبلوماسية نحو السير بمنطق التطبيع مع «إسرائيل»، على صعد كثيرة رياضية كانت أم ثقافية وغيرها، والتبرير بوقاحة لهذا الأمر .
من وثائقي «النكبة»

السعودية التي تمثل رأس حربة في هذه «الإستراتيجية»، بات إعلامها الذراع الأولى في هذه العملية. وآخر الأمثلة على ذلك ما عنونه هذا الإعلام على خلفية القصف الصهيوني لمطار «تيفور» السوري، إذ أورد أنه خلّف «قتلى إيرانيين» متجاهلاً كلياً أنّ هناك عدواناً صهيونياً على أرض عربية!
الأوراق باتت بهذا القدر مكشوفة، الى حدّ تبني قناة «العربية» السعودية الرواية الصهيونية لنشأة «دولة إسرائيل». يوم الأحد الماضي، عرضت الشبكة السعودية الجزء الأول من وثائقي «النكبة» (إنتاج :Arte، و Roche Productions) لكل من ويليام كاريل وبلانش فنغر. روّجت القناة بأنّ الشريط (48 دقيقة)، يحكي «إعادة صياغة قصة ولادة إسرائيل كما يراها العرب والإسرائيليون» من خلال «نصّ خال من الأيديولوجيا أو التحزّب». يمتدّ الجزء الأول على الفترة التي تراوح بين عاميّ 1879 و 1948، لدى تاريخ إعلان «استقلال إسرائيل». اعتقدت الشبكة السعودية، أن بإمكانها عرض هذه المادة التوثيقية الخطرة والمسمومة، من خلال القول بأن ما يشفع لها هو تدعيمها بصور أرشيفية «اكتُشفت حديثاً»، رغم أن لا مناسبة فعلية لتسويغ عرضها إذا ما وضعنا جانباً مضمون الشريط.
يستضيف «النكبة» مجموعة مؤرخين إسرائيليين، وأكاديميين فلسطينيين. ومن خلال شهادات العرب تحديداً، ولّف المخرجان الرواية الصهيونية، أو أهملا ما قالوه وهمّشاه، لا سيما في المقطع الأخير لدى تناول مرحلة تأسيس «الدولة اليهودية» في فلسطين. خلطة تراوح بين هذه الشهادات، وصور وفيديوات أرشيفية، رافقت المرحلة المنوي الإضاءة عليها. طاف مسار الوثائقي الذي حمل منطقاً صهيونياً يصوّر اليهود المضطهدين في أوروبا من قبل النازية، ولاحقاً من قبل البريطانيين في فلسطين، ثم مواجهتهم ظروفاً صعبة، مع «بدء العرب الحرب (1948) عليهم»، ثم خسارتها. الانحياز الواضح للصهاينة في الشريط، لا يحتاج الى دلائل ملموسة في السرد. على سبيل المثال، يستخدم الشريط لدى سرده أحداث 1929، عبارة «سرت شائعات حول هجوم يهودي على المسجد الأقصى» مقابل استخدامه لهذا السياق في الخبر عينه «هجمات العرب على اليهود».
في الجزءين الأول والثاني من «النكبة»، كنا نحن أمام سردية فاضحة حول «مظلومية» اليهود، وتهديد حيواتهم في أوروبا، وغياب «الخيارات البديلة» للعيش هناك. فزعيم النازية أدولف هتلر فرض مقاطعة للشركات اليهودية (1933)، وسمح بهجرة اليهود إلى فسطين مقابل تخليهم عن ممتلكاتهم، وسط إقفال أبواب أوروبا أمامهم، وانعدام سبل إيجاد «وطن» لهم، وقد أضحى عدد «ضحاياهم حوالى الثلث حول العالم من قتلى إما بالغاز أو داخل المعسكرات النازية». هؤلاء «المهاجرون» بحسب الشريط، والمغتصبون واقعاً لأرض فلسطين، لم يأت الوثائقي على ذكر، ولو تلميحاً، أنهم قاموا بمجازر مرعبة وتنكيل جماعي بالفلسطينيين، بل أخذ يصورهم على أنهم مجموعة من النخبة فيهم «العلماء والمهندسون».
يبدأ الجزء الثاني بفتح الأبواب أمام اليهود للمجيء إلى فلسطين، وصورهم «عائدين» فرحين!


وسط التهليل والفرح العائم الذي يفتتح به الجزء الثاني من «النكبة» لدى فتح الأبواب أمام اليهود للمجيء إلى فلسطين، وصورهم «عائدين» فرحين، يستوقفنا كلام المعلّق الذي يعلن «ولدت دولة إسرائيل... أصبح الحلم حقيقة». عبارة تختصر مساراً عربياً سعودياً يُنتظر إعلانه في القريب العاجل. لم يتوقف الشريط عند مجيء اليهود الى فلسطين، بل راح يكرر سردية «معاناة» الصهاينة في تأمين موارد لهم، وسط الأعداد الكبيرة التي «وفدت» الى فلسطين. يسرد هذه المرحلة التي «اضطر» فيها هؤلاء للعمل في الزراعة بشكل جماعي، وينتهي بدفن تيودور هرتزل في القدس كما أوصى، بعد تحقيق «حلم الدولة اليهودية» (1949). لعلها مفارقة بأن ينتهي الجزء الأول بصوت الشاعر الراحل محمود درويش، ملقياً قصيدة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» التي تنتهي بـ «كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين». ويبدو أنه بفضل آل سعود، ستنتهي سيرة فلسطين إلى الأبد، و يدشّن عصر «إسرائيل» على المنصات السعودية، إيذاناً بدفن القضية الفلسطينية إلى الأبد.