خلال توقيع كتابه «مذكرات الشياح» (دار المؤلف ـ 2014) في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الأخير، أصرّ الفنان عبد الحليم حمّود على تقديم ضيافة لم يعتدها الجيل الجديد: «غزل البنات» وأقراص من «طربوش» والكثير من «القضامة» الملوّنة. ما أراد حمود قوله من ذلك أنّ ما عاشه في طفولته ومراهقته في منطقة الشياح إبان الحرب الأهلية وبعدها، لا يمكن أن يتكرر عند الجيل الجديد الذي لم يعرف بالتأكيد هذه الأصناف من الحلوى. قبل ولادة مذكراته، كان فايسبوك وسيلة التواصل بالنسبة إلى رسام الكاريكاتور اللبناني، والمسرح الذي شهد نشرها بالتدريج، لتصبح اليوم «أوراقاً مؤرخة لهذا الفترة الزمنية بحلاوتها ومرّها». المذكرات الممتدة على أكثر من 70 باباً، تفاوتت بين الاختصار والإسهاب تبعاً لكل حادثة. هي أشبه بومضات أخرجها كاتبها من سياقها الزمني الترتيبي لمصلحة بوح أراد إيصاله إلى القراء. وقد راوحت بين الطرفة والألم، وملامح طفولية مشاغبة. إنّها المنطقة الواقعة على ما عُرف بـ«خط التماس» تشاركها «عين الرمانة» في هذا «المحور». وبين المنطقتين حكايات وأبعاد سوسيولوجية ودينية.

تتداخل المذكرات بين الحميم الخاص داخل جدران منزل حمود ليتسع السرد مع الانتقال إلى الحيّ وشخصياته وتفاصيله وما بعد خطّ التماس. تتدرج المواضيع التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي إلى السياسي والنقدي في بعض طيّاته. أسرار كثيرة تخرج إلى العلن في أيام الطفولة والمراهقة من أصغر التفاصيل إلى أعمّها. سرد حمود بعضها باللغة العامية بمصطلحات تلك المنطقة، ليضفي حيوية على هذا الماضي ويستثير الذاكرة أكثر إزاء تلك الحقبة. مع هذه المذكرات، تعرّفنا إلى المأكولات الشعبية وحلوياتها وامتهان الكاريكاتوريست مهنة رسم الوشم على الأجساد وترؤسّه «لعصابة» مع رفاقه وإتقانه طبّ الأعشاب ومداواته للجروح والندوب.
بين طيات الكتاب، تمرير لآرائه السياسية في تلك الحقبة مع توجيه نقد إلى بعض الأحزاب والمنظمات المحلية والفلسطينية التي كانت «تفرّخ» يومياً وعبثية اختيار الانضمام اليها، فيستشهد مثلاً بالشاعر السوري محمد الماغوط الذي اختار «الحزب القومي الاجتماعي» بسبب «إلى قربه من منزله وتمتعه بوسيلة للتدفئة»!
رحلة جميلة تنقل القارئ في طيات شارع «مارون مسك» (الشياح) بين مرابض المدافع وأصوات القذائف ونجاة الكاتب وأفراد عائلته من موت محتم. كان الشارع يزهر حياة رغم عصف هذه الحرب وهمجيتها. وفي خضم هذه النار المشتعلة، نرى الفسحة التي أتاحها التلفزيون والسينما. مساحة «صنعت أحلاماً» و«باعت جمالاً»، بانيةً عالماً موازياً لـ«يوميات الحرب ورائحة البارود والجثث».
في الكتاب أيضاً «عبور» إلى الآخر المختلف في العقيدة والسوسيولوجيا، نظراً إلى خاصية «الشياح» ومجاورتها «عين الرمانة» والتفاعل «الفطري» الناشئ بين المنطقتين، حيث تتداخل الطقوس والأفكار. ومع التهجير إلى منطقة «الحمراء»، بانت «ثقافة» مختلفة أفرزت «صعوبة في التأقلم» كما يروي حمود مع هذه «الشوارع النظيفة والأفران التي لا تبيع المنقوشة إلا مصلحة». لكن «الحمراء» وفّرت له فسحة للفن: بين فيروز المتنقلة «بشالها» و«نظاراتها السميكة»، وبين شقة خال حمود المجاورة لتلك التي كان يقطنها الفنان زياد الرحباني حيث تتصاعد أصوات بروفات المسرحيات والأغنيات.

يمكنكم متابعة زينب حاوي عبر تويتر | @HawiZeinab