إيلان بابيه أكثر من مجرّد مؤرّخ جديد إسرائيلي. ارتبطت ظاهرة المؤرّخين الجدد في الكيان الصهيوني بشكل وثيق بمناخات «التسوية التاريخية» للصراع العربي ــ الإسرائيلي التي سادت في أواخر ثمانينات القرن الماضي وبداية تسعيناته. اعتبر هؤلاء، وجلّهم من أنصار اليسار الصهيوني أو «ما بعد صهيونيين» في أحسن الأحوال، كتوم سيغيف وسيمحا فلابان وبيني موريس (عاد وارتد إلى مواقف صهيونية متطرّفة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية) أنّ المناخات المذكورة تتيح لهم البدء بالقيام بدورهم الفعلي كمؤرخين ومراجعة السردية التاريخية الرسمية الإسرائيلية وأساطيرها التأسيسية عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» وعن «رحيل الفلسطينيين بطلب من الدول العربية» وعن جيل الآباء المؤسسين الذي «حوّل الصحراء إلى أرض خضراء مزهرة» وغيرها من الترّهات. لم يكن هدفهم التشكيك بمشروعية الدولة الصهيونية عبر الكشف عن «خطيئتها الأصلية» حسب تعبير أحدهم ـــــــ أي تهجير الفلسطينيين عبر عمليات قتل وترويع واسعة النطاق ــــ وعن ارتباطها الوثيق بالقوى الاستعمارية الغربية وتواطؤ عدد من النظم الرجعية العربية معها منذ بداية المواجهة في فلسطين. غايتهم الكبرى كانت «تطبيع» إسرائيل أي المساهمة في تحوّلها إلى دولة قابلة للتعايش مع محيطها في سياق إقليمي ودولي بدا فيه الحل التفاوضي للصراع العربي ــ الصهيوني على قاعدة مبدأ «الأرض مقابل السلام» على مرمى حجر أو أدنى. أقصى ما ابتغاه هؤلاء هو المساهمة من موقعهم كمؤرخين، على المستوى الفكري والثقافي، في خلق الظروف المؤاتية لإنجاح «المصالحة» بين العرب والإسرائيليين.
لم يشاطر إيلان بابيه معظم المؤرّخين الجدد خلفياتهم وأهدافهم. هو في الأساس مناضل معادٍ للصهيونية ومدافع عن القضية الفلسطينية أدرج عمله كمؤرخ في سياق المعركة الايديولوجية والسياسية مع دولة إسرائيل وأجهزة دعايتها. مجمل مساهماته، وبشكل خاص كتابه الهام «التطهير العرقي في فلسطين» (عبر إلقاء الضوء على حقيقة أنّ تهجير الفلسطينيين لم يكن نتيجة مباشرة لاندلاع الحرب والعمليات العسكرية بل تم وفقاً لخطة معدّة سلفاً من القيادات الصهيونية)، أظهرت بوضوح الطبيعة الاستعمارية الإحلالية والعنصرية للمشروع الصهيوني. بابيه، على خلاف غيره من الإسرائيليين المعارضين لسياسة دولتهم تجاه الفلسطينيين باعتبارها سياسة احتلال واستيطان وتمييز عنصري، مدرك لخصوصية وفرادة المشروع الصهيوني كمشروع استيطان إحلالي يسعى عبر وسائل وأدوات متعدّدة عسكرية وأمنية واقتصادية وقانونية إلى استمرار عملية الاقتلاع التدريجي للفلسطينيين من أرضهم، حتى ولو تمّت على نار هادئة، وإحلال المستوطنين الصهاينة في مكانهم. من الممكن المقارنة بين بعض قوانين وسياسات الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا كما هو الحال بالنسبة إلى القانون العضوي الجديد الذي صوّت عليه الكنيست الإسرائيلي مؤخراً والذي يمأسس ويقونن التمييز العنصري الذي كان قائماً بالفعل قبل هذا التصويت. لكن الغاية النهائية لهذا القانون ليست نفسها في الحالتين. ففي جنوب أفريقيا، كان الهدف هو الحفاظ على احتكار الأقلية البيضاء للسلطة والثروة والفصل العنصري بينها وبين الجماهير الأفريقية السوداء واستغلال هذه الأخيرة كأيدٍ عاملة رخيصة.
نظام الفصل العنصري كان نمطاً من أنظمة السيطرة والتحكم والاستغلال الوحشية والبدائية التي درج المستعمرون على فرضها في بقاع كثيرة من جنوب العالم في القرون الماضية. لكن نظام الأبارتيد لم يهدف إلى طرد الجماهير الأفريقية من أرضها وأماكن حياتها. أما في فلسطين، فإنّ الغاية النهائية للقانون الأخير هي الاستمرار في عملية خنق الفلسطينيين على مستوى الحياة اليومية وكجزء مكمّل لسياسات الاستيطان والضم والتهجير والاستيلاء على الموارد وقتل وتهجير السكان والنخب بقدر ما تتيحه الظروف ضمن منطق «أرض أكثر وعرب أقل» الذي حكم المشروع الصهيوني منذ انطلاقته.
بعكس جنوب أفريقيا، الأرض هي محور الصراع بين الشعب الفلسطيني والاستعمار الاستيطاني الصهيوني. هل يمكن في سياق كهذا استلهام نموذج الحل الجنوب أفريقي القائم على إلغاء نظام التمييز العنصري والسماح بوصول المؤتمر الوطني الأفريقي إلى السلطة ضمن عملية مقايضة مع الأقلية البيضاء سمحت بالحفاظ على قدر هائل من امتيازاتها ومصالحها على حساب الجماهير الأفريقية الغفيرة التي لم تتحسن ظروف عيشها نوعياً؟ هل يمكن للفلسطينيين إيجاد حلفاء وازنين داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي أصبح للتيارات الفاشية القومية والدينية هيمنة راسخة على أوسع قطاعاته، للنضال المشترك من أجل دولة ديمقراطية واحدة؟ هل يشكل مشروع الدولة الواحدة كما يعتقد إيلان بابيه أفقاً واقعياً للنضال الفلسطيني اليوم؟ طبيعة الصراع، باعتباره صراعاً متمحوراً أساساً حول الأرض وحقيقة المجتمع الإسرائيلي الاستعماري العنصري الذي دخل منذ أكثر من عقدين في مسار التحوّل نحو الفاشية، كما أقرّ رئيس الكنيست الأسبق إبراهام بورغ أو عالم الاجتماع باروخ كيمرلنغ، تدفعان للتشكيك بقوّة بهذه الفرضية. لكن الخلاف حول الحل الفعلي للصراع في فلسطين، لا ينتقص بتاتاً من أهمية مساهمات بابيه الفكرية والسياسية، ومن دوره المميّز في دعم نضال الشعب الفلسطيني.