في ذلك اليوم الحار من آب (أغسطس)، انطفأ محمود درويش (13 آذار/ مارس 1941- 9 آب/ أغسطس 2008). لن ننسى تلك الظهيرة من يوم السبت، فقد ذهب الشاعر في غيبوبة أبدية. لم يسعفه قلبه في مقاومة الموت. لم يسعفه الوقت في كتابة نسخة ثانية من «الجدارية» لاختبار مذاقٍ آخر للنجاة. الآن، ونحن نستعيد المسودة النهائية لحواراته التي ستصدر قريباً تحت عنوان «الطروادي الأخير» ( دار كنعان ــــ تقديم وتحرير سعيد البرغوثي) سنكتشف عن كثب ثراء هذه التجربة وخصوصيتها وعمقها، وذلك القلق الخلّاق الذي رافق نصوص الشاعر منذ بداياته الأولى إلى رمية النرد الأخيرة. بذل سعيد البرغوثي جهداً استثنائياً في جمع حوارات الشاعر من مصادر مختلفة كي يكون هذا الكتاب مرجعاً لمرآة محمود درويش الأخرى، ولمختبره الشعري، هو الذي قال في أحد حواراته «الحوار في جوهره كتابة شفوية، ومختبر لقراءة باطنية للشاعر». هكذا سنقع على أول حوار للشاعر مع الصحافة العربية، أجراه الراحل محمد دكروب في موسكو، ونُشر في مجلة «الطريق» (1968). كانت الزيارة الأولى لصاحب «أوراق الزيتون» إلى خارج فلسطين، وقد ذهب الحوار إلى تلمّس التضاريس الأولى لشعره وطفولته ومعنى أن تكون لاجئاً في وطنك.


اعترف محمود درويش بجرأة أن ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» (1960) لا يستحق الوقوف عنده، وأن بدايته الجادة كانت مع ديوانه الثاني «أوراق الزيتون» (1964)، بانتقاله من موقع «الثوري الحالم» إلى وعي ثوري آخر أكثر جذريّة، وسوف يكون ديوانه «عاشق من فلسطين» الذي كتب معظم نصوصه في السجن نقلة أخرى في النبرة والشفافية والأداء اللغوي، وصولاً إلى «العصافير تموت في الجليل» باعتباره قطيعة مع ما سبق. وتتمحور المواجهة التي نشرتها مجلة «الآداب» البيروتية (1970)، حول عبارته المشهورة «أنقذونا من هذا الحب القاسي» التي أرادها إدانة لمحاولات الإطراء العمومي لأدب المقاومة في فلسطين، هذا الحب الذي أضرّ بالشعر الفلسطيني المكتوب في الداخل أكثر مما أفاده نقديّاً، فليس كل شعر مقاومة شعراً ثورياً «والثوري- إذا كان شاعراً موهوباً- لا يكون ثورياً داخل الشعر ورجعياً خارجه».
في حوارٍ آخر، يستدرجه سامر أبو هوّاش إلى مناطق حميمية، نادراً ما يتطرّق إليها الآخرون، كمن يبني سيرة ذاتية، أو مرآة سريّة لصورة الشاعر خارج نصّه، بالتوازي مع تطوّر تجربته الشعرية ومتطلباتها: التباس العلاقة مع الأب، الهشاشة الذاتية، ذائقة القارئ وتمرّد الشاعر على هذه الذائقة. لا ينكر محمود درويش تأثره بنزار قباني، أو لوركا، أو نيرودا، في إنشاء غنائيته الخاصة، وكيف تمكّن، على مراحل، من جذب قارئه إلى تضاريس شعرية لا تنتسب إلى قصائده المشهورة مثل «سجّل أنا عربي»، و«أحنُّ إلى خبز أمي». فالذروة بالنسبة إليه أتت مع «الجدارية»، وهي معلّقته الشعرية، بالمقارنة مع منجزه السابق «كتبتها مفترضاً أنني لن أكتب بعدها، أي إن هذه شهادتي الشعرية وأثري الشعري» يقول. من جهتها، تطرح باتريس بارات (لوموند- 1983)، أسئلة تتعلّق بمعنى فلسطين، وحصار بيروت، وفقدان الجغرافيا الأولى، والعزلة، وقلق الشاعر. يجيب: «فلسطين فردوس قابل للتحقّق، وليست جنّة ضائعة، فلسطين ليست ذكرى، إنها أكثر من وجود، ليست ماضياً ولكنها مستقبل. فلسطين هي جمالية الأندلس. إنها أندلس الممكن». وسيتوغّل صبحي حديدي، في حواره مع صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» في عمق التجربة الشعرية وتحوّلاتها: الإغراق في الأسطورة، والغنائية الملحمية، والتصوّف وأنسنة المقدّس، وتشريح القصيدة بفحص مفرداتها من الداخل. يرى محمود درويش بأن نصوصه تراجيدية في المقام الأول، تنهض على «سرد حكاية نفسها، لتعرفَ نفسها، وتتعرّف على الآخر أيضاً».


من مطرحٍ آخر يأتي عباس بيضون إلى مقابلة محمود درويش بذخيرة نقدية تكفي لحوار طويل ومقطّر في آن واحد، ليخرج بخلاصة استثنائية تشكّل ما يشبه بياناً شعرياً، ما جعل درويش يقول باطمئنان: «لو أعدتُ كتابة دواويني لاكتفيت بخمسة أو ستة» (2003). لم يكن وقتها قد كتب قصيدته المذهلة «لاعب النرد»، وكان يائساً من مصير الشعر العربي اليوم، بقدر حرصه ألا تقع قصيدته في التكرار «أحسُّ بأننا نحن العرب ذاهبون إلى مكان تركه الآخرون منذ قرن». ويضيف: «علاقتي بالشعر الحديث تغيّرت، فلي الآن نظرة مختلفة تجاه ما يسمّى بشعر الرواد الذي طالما احتفينا به. كثير منه لا أستطيع أن أقرأه اليوم». وسوف يؤكد على منطقة القلق بخصوص شعره، أكثر من الطمأنينة، استجابةً لشهوة الشعر الصافي أو ما يقاربه، جمالياً لا أيديولوجياً. في حفرٍ آخر للتجربة، سينحاز محمود درويش إلى الطرواديين، لأن بوسع الضعفاء والمهزومين أن يكتبوا تاريخهم أيضاً. يقول: «الشعر دائماً حليف الخسائر الصغيرة والخيبات، وهو المتفرّج المحايد على الجيوش الإمبراطورية. أعتقد أن العشب الذي ينبت على خوذ الجنود هو الشعر، وليست الخوذ هي الشعر».


في فضاء التجربة الشعرية، ومحاكمتها من داخلها، يجيب محمود درويش على أسئلة عبده وازن، بقلق أكبر عمّا سيأتي غداً، وليس عمّا أنجزه قبلاً، فهذا شاعر مشّاء لا ينظر إلى الخلف باطمئنان، وغير عابئ بتصفيق الآخرين، أو بالألقاب التي يزينونه بها: «أشعر بأنني في حاجة إلى لغة شعرية جديدة تحقّق الشعرية في القصيدة، بشكل يجعلها أكثر شعرية إذا أمكن. أن أخفّف من ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون أن أتخلّى عن الشرط التاريخي». ووفقاً لهذه الرؤية، فإن الطريق إلى القصيدة أجمل من القصيدة التي سبقتها في تحوير لعبارته «ما زال الطريق إلى البيت أجمل من البيت». وسيرفض الإفراط المجّاني في القراءة السياسية لنصّه الشعري، في حواره مع حسن نجمي (2007)، مؤكداً أسئلة الشعر أولاً، وارتباكاته الشخصية إزاء نصّه قبل نشره، وضرورة أن يطّلع عليه بعض أصدقائه الذين يثق بآرائهم. هكذا خضعت «الجدارية» مثلاً، إلى أكثر من كتابة لاحقة لعدم اطمئنانه إلى سلامة الإقلاع. كما سيشكو من القراءات النقدية التي تضع قصيدته في قفص ضيّق، بإهمال الجانب الجمالي منها لمصلحة التأويل السياسي: «تجد أنهم يفصّلون جسد المرأة التي أكتب عنها في قصائد الحب إلى جغرافيا». ويستدرك: «ينبغي أن يمرّ النص بدون كوادر حزبية، أن يعبر ويخترق ويصل بدون ترويج إعلامي». سيحضر المتنبي، في معظم هذه الحوارات بوصفه علامة فارقة في الشعر العربي، وأحد الآباء الشرعيين لمحمود درويش، فهو لا يتردّد بالقول في وصف شعرية المتنبي «كل ما أردت أن أقوله قاله هو في نصف بيت: على قلقٍ كأن الريح تحتي». ويضيف مؤكداً: «لأن المتنبي أعظم شاعر في تاريخ اللغة العربية، وهو كما يبدو لي تلخيص لكل الشعر العربي الذي سبقه، وتأسيس لكل ما لحقه.
قال في اللقاء الأخير: «أحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب. أنا متشائم، وأرفض تصدير الآمال الزائفة»

نحن الآن نطرّز بعض أبيات المتنبي».
سيفاجأ القارئ ربما، بوقائع ندوة قادها أدونيس احتفاءً بمحمود درويش في برلين (2002)، والتي افتتحها بقوله «إن شعره يفلت من الوسائط والبنى ومن الحتميات والموضوعيات كلها، كمثل وردة تنغرس في أحضان المادة، غير أن العطر لا يجيء من شهيق هذه الوردة وزفيرها، هكذا يصعد عالمنا نحو آفاق إنسانية كونية»، الأمر الذي فاجأ درويش نفسه، فعلّق قائلاً: «تربطني بأدونيس علاقة شخصية منذ ثلاثين عاماً، ولكن قد يكون من المفارقات أنني لم أسمع رأيه في شعري إلا الآن في برلين».
ويرصد فيصل درّاج مشهديات اللقاء الأخير مع الشاعر قبل سفره إلى أميركا، وما قاله قبل الوداع الأخير: «لا شيء يدعو إلى الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب، وأنا متشائم، وأرفض تصدير الآمال الزائفة».