فقدت الماركسية علماً جديداً من مفكّريها المخضرمين. سمير أمين رحل بالأمس، عن عالم مثقل بأزمات الرأسمالية، بعد مسيرة طويلة أغنى فيها النظرية التي تبنّاها طوال حياته، وصار ابنها المخلص، بأفكار تجديدية، بات معها مرجعاً لليساريين عموماً، والعرب بشكل خاص، وأحد أبرز الملهمين لمناهضي العولمة. سمير أمين، المولود في إحدى قرى دلتا النيل عام 1931، من أب مصري قبطي وأم فرنسية، سلك طريقاً اختاره كثيرون في عصره، وقلّة في زمننا، حين أراد «تغيير المجتمع»، وهي العبارة التي قالها لوالدته، في سنّ السادسة، يوم رأى طفلاً يبحث عن الطعام في صندوق القمامة، كردّ فعل عفوي على تفسيرها للأمر بأن «المجتمع سيئ ويفرض ذلك على الفقراء».ترعرع سمير أمين في بور سعيد، المدينة الرمز، التي كانت واحدة من أبرز مدن العرب الرازحة تحت نير الاستعمار، حيث حصل على الشهادة الثانوية من مدرسة فرنسية في العام 1947، ليغادر بعدها إلى باريس طالباً للعلم في جامعاتها، في مرحلة التحوّلات الكبيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
في فرنسا حصل أمين على دبلوم العلوم السياسية العام 1952، وشهادة التخرج في الاحصاء عام 1956، وشهادة التخرّج في الاقتصاد عام 1957، ليعود إلى مصر حاملاً شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة السوربون.
خلال فترة الدراسة في فرنسا، انتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، لكنه سرعان ما رأى نفسه متناقضاً مع الماركسية السوفياتية، ما دفعه إلى التقرّب من الحلقات الشيوعية الماوية.
في تلك الفترة أيضاً، بدت حماسة أمين واضحة تجاه حركات التحرّر الوطني في العالم الثالث، ولا سيما نضالات شعوب الشرق الآسيوي. وفي خضم تلك المرحلة جاءت حركة «الضباط الأحرار»، لتغيّر مصر، فوجد نفسه، بحكم الحماسة الوطنية، المرافقة لـ«ثورة 23 يوليو»، وكذلك بحكم جدارته في علم الاقتصاد، ضمن المنظومة الجديدة التي تولّدت بعد سقوط الملكية، فعمل في المؤسسة الاقتصادية الحكومية التي كانت جزءاً من إدارة عملية «التمصير» والتأميم الاقتصادي في مصر.
لم يطل الأمر كثيراً، حتى بدأت الأحلام تتلاشى، فعلى خلفية الصدام بين جمال عبد الناصر والشيوعيين بعد السنوات الأولى على الثورة، غادر أمين مصر عام 1960 إلى باريس. وفي تلك الفترة، نشر كتاب «مصر الناصرية» باسمه الحركي «حسن رياض»، وقد رأى فيه أن غياب الديموقراطية كان عيباً رئيساً في نظام عبد الناصر. وفي فرنسا، تحوّل إلى كاتب بالفرنسية لدراسات اقتصادية، ثم خبيراً ومسؤولاً لبرامج تنموية قادته الى الكثير من البلدان الافريقية وغير الافريقية، في نشاط عملي، أغنى تجربته الفكرية.
كان اقتران الفكر الشيوعي بالتجربة العملية في مجال التنمية عنصراً حاسماً في نظريات سمير أمين بشأن «التبعية»، فقد تصدى لمقولات برّاقة عن التنمية والتحديث، روجتها القوى الرأسمالية العالمية لتبرر بها الاستيلاء على موارد دول الجنوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
وعلى هذا الأساس، قدّم أمين مجموعة من القراءات لعدد من القضايا الأساسية، مثل العلاقة بين المركز والأطراف، التبعية والعوالم الأربعة، ومحاولة تجديد قراءة المادية التاريخية وأنماط الإنتاج.
وطوال حياته، اغنى سمير أمين النظرية الماركسية بالكثير من الكتابات، ومن أهم نتاجاته «دراسة فى التيارات النقدية والمالية في مصر»، و«التراكم على الصعيد العالمي»، و«التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة»، و«القومية وصراع الطبقات»، و«الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الامبريالية»، و«أزمة الامبريالية أزمة بنيوية»، و«أزمة المجتمع العربي»، و«بعد الرأسمالية»، و«نحو نظرية للثقافة»، و«حوار الدولة والدين»، و«نقد الخطاب العربي الراهن»... وغيرها.