«شكل مدينة»، عنوان معرض الفنان البريطاني ناتانييل راكوي (1975) في «غاليري ليتيسيا» في الحمرا» (افتُتِحَت قبل ستة أشهر). لكن الحدث لا يقتصر على عرض داخلي لـ «شكل المدينة» في حاضنة الغاليري، بل يمتد إلى أماكن عامة في بيروت. من تجهيزات وتركيب ضوئي ورسومات، يعيد راكوي بناء الخيوط العامة التي ترسم مدينتنا بصرياً. فراكوي لا يرسم/ يقدِّم المدينة كباحث في تفاصيلها، مأساتها أو معاناتها وعشقها وضحكها فحسب، بل يرسمها، يعيد تشكيلها أيضاً كزائر يلتقط صورها بشغف التعارف الليلي. صور كأول انطباع، كأول لقاء. وللدقة، هو يجيد حقاً تصوير هيئتها البصرية الضوئية، بكل أوقاتها. «شكل المدينة يتغيَّر أسرع - يا للأسف- من قلب الإنسان» بودلير.

أضواء المدينة: إعادة بناء من عناصر ميدانية
«اعتقدت أنه سيكون من المثير للاهتمام أخذ السقيفة المتواضعة والارتقاء بها حتى تتمكن من النهوض وتحدي العمارة وكذلك تفكيكها إلى نقطة تُلزم الرائي بإعادة قراءتها» يقول راكوي عن علاقته بإعادة تشكيل المدينة بصرياً. شهران في بيروت عام 2009، قضاهما الفنان ضمن إطار إقامة فنية بدعم من «مؤسسة دلفينا». لم يَعُد فيها ناتانييل الصور التي أخذها للمدينة لكثرتها، سار في طرقاتها الفرعية قبل العامة وصوّر ثم صوَّر كمن يتنفس. وهنا تبدأ القصة، هي المدينة وأضواؤها - خافتة أم منوّرة- يعيد راكوي البناء التركيبي للصور على الورق كلوحاتٍ مبسطة. يتعاكس الضوء والظل وحدهما، دون تفاصيل. وفيما الظل يختاره راكوي أسود، يبقى الضوء على حاله: مشعاً، أصفرَ، منيراً! ومن اللوحات المبسطة، ينطلق الفنان لبناء التركيبات والتجهيزات، التي غالباً هي من عناصر تُكوِّن بنيان المدينة البرّانيّ.
يقول راكوي في بيانه الفني للمعرض: «بيروت، المدينة نفسها، أصبحت نقطة الانطلاق لسلسلة جديدة من الأعمال. تسعى هذه المنحوتات والرسومات على الورق لاستكشاف مفهوم الجمال العابر الذي يمكن أن تفاجئنا به بيئة حضريّة (عمرانية/مدينية)، ما أتاح لي الجمع أو الدمج بين تحقيق رسمي/ شكلاني ومكاني/ مساحاتي مع مفاهيم السكن والاغتراب والحركة والخرائط المعرفية».
عملياً يمكن لأي زائر لبيروت أن يرى عملَين لراكوي خارج إطار الغاليري، أولهما واحد على الطريق المؤدي للبحر قبالة جريدة «النهار»، وعلى تخوم الحفريات الأثرية. عمل من فولاذ وضَوء وصباغ فوسفوري، يعزز كثافة النور. يركن على أحجار كبيرة هي من آثار تلك المنطقة، يذكر بمكعب آشر الشهير، لكن أطرافه متوازية ومتعانقة. هو عملياً ثلاثة مربعات متداخلة، مضيئة، ترسم هيئة مكعب يفوق المترين.
والعمل الثاني في مربع خان أنطون وسط البلد. أشبه ببيت مقلوب رأساً على عقب، جدرانه سوداء، لكن النور ينطلق من داخله كشعاع دافق ضخم، بسبب الإضاءة والصباغ الفوسفوري الذي يعتمده راكوي لتكثيف النور. العمل بقياساته ضخم، يجذب الزوار للطواف حوله واختبار القرب من أنوار المدينة، بعين الفنان.
أعمال تقدم تمثيلاً حقيقياً لتفاوتات الحياة المعاصرة


أما في الغاليري، فهناك ثلاثة معارض متراكبة. يطالعك بدايةً تجهيز من البلاستيك المزجج الأصفر الفاقع، خلفه إضاءة «نيون» بيضاء، تجعل الرؤية فوسفورية مدهشة، كأضواء المدينة الليلية. يمر عبرها الزائر ليصل إلى مجموعة من ست منحوتات معروضة في وسط المساحة، هي عملياً مهندسة ومصممة ومنفذة عبر مواد من هذه المدينة، وفي بيروت. اختار راكوي أشكالاً محددة من «الخفّان» كثير الاستخدام في بيروت. يجمع كل عنصرين منها خط من الصباغ الفوسفوري، ويحيطها بـ «نيون» أبيض على شكل مكعب كأنها هالة هندسية. هي الهالة الضوئية نفسها التي تراها عيوننا في تفاصيل المدينة، من دون أن تحدد هويتها. وقرب هذه المنحوتات، مجموعة من اللوحات بأحجام مختلفة، مؤطرة بزجاج، مشغولة بوسائط مختلفة على ورق. بعنوان «سلسلة محطات البنزين». هي عملياً اختصار بصري مينيمالي مبدع لأكثر الأماكن إضاءة في بيروت: محطات البنزين. قد يظن الزائر أن المعرض ينتهي هنا، لكن المتعة البصرية تستمر عندما ترشدك غايا فودوليان، بابتسامة ملؤها التشويق، إلى غرفة جانبية داخلية في صالة العرض، فدخل لترى مجموعة من الزجاج المركب بأشكال أفقية وعامودية على الحائط، وبينها ضوء «نيون» يجعل من احتمالات الظلال لا متناهية. يبقى أن أبلغ ما يصف أعمال راكوي هي تعابير اختارتها الغاليري للتعريف عن المعرض: «يستخدم راكوي الضوء لبناء الفضاء من خلال محاكاة الطريقة التي تحدد بها المباني ومجمعات المدينة والشوارع. تلتقط أعماله الأحاسيس اللونية للشوارع المقفرة عند الفجر، حيث يتلاشى الجو مع توهج ضوء النهار إلى الليل والظلال الناتجة عن الروافع الدخيلة والسقالات والمباني الهيكلية. إن المنحوتات الناتجة - الأشكال الهندسية المدهشة والأعمدة المذهلة للضوء - تجمع بين الجمال المذهل وصدمة التصنيع، وربما تقدم تمثيلاً حقيقياً لتفاوتات الحياة المعاصرة».
نيكول...

* «شكل مدينة»: حتى 25 آب ــ «غاليري ليتيسيا» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/353222