ظهرت التحركات المطلبية في السعودية، وما رافقها وتبعها من ظهور ناشطين حقوقيين ومدنيين، بشكلٍ مكثّف، في الفترة التي تلت بداية «الثورات العربية». تزامن ذلك مع اختراق مفاهيم مدنية المجتمع السعودي، تدعو إلى الحريات الفردية والجماعية. كانت موجودة سابقاً، لكنها أصبحت في زمن ما بعد «الثورات»، أكثر تأثيراً وأوسع انتشاراً. أسهم الإعلام التابع للنظام السعودي في الترويج لتلك المفاهيم المتضمنة للحريات والحقوق المدنية، بفتح منابره للمعارضين من أصحاب الرأي المناوئ للأنظمة التي لا تتوافق مع سياسته. وهي تجربة محفوفة بالمخاطر، كانت قد ساهمت في انهيار الحكم الملكي الفرنسي بعد ثورة عام 1789.
صابر نزار ـ باكستان

بين عامي 1775 و1783، دعم الحكم الملكي في فرنسا حرب الاستقلال الأميركية أو «الثورة الأميركية» التي قادها جورج واشنطن ضد التاج الملكي البريطاني. إلى جانب الدعم العسكري، جعلت حكومة الملك الفرنسي لويس السادس عشر، من صحفها ومنابرها الإعلامية منصة سمحت من خلالها لرائد الدعاية الأميركية حينها، بنجامين فرانكلين، الذي كان موفد الثورة الأميركية إلى فرنسا، بأن يشنّ حملة واسعة ضد الاستعمار البريطاني، ويحث سكان المستوطنات الأميركية على «الثورة» من أجل بناء الجمهورية المستقلة عن التاج الملكي. فقد سخّر الحكم الملكي الفرنسي صحافته للترويج لأفكار الثورة الأميركية من خلال إصدارات فرنسية نشر فيها فرانكلين العديد من مقالاته، ومقالات من صحف أميركية، كان يقدمها للصحف الفرنسية لإعادة نشرها.
الدعم الفرنسي لثورة المستوطنات الأميركية كان دافعه العداء التقليدي والتاريخي لبريطانيا، فلا يوجد رغبة فرنسية منفصلة عن هذا العداء، في ظهور جمهورية أميركية مستقلة، لكن خطابات ومقالات ومنشورات فرانكلين الحماسية في الصحف الفرنسية الرسمية، التي اتخذت طابع الدعوة إلى الحريات والحقوق المدنية التي يجب أن يتمتع بها الشعب الأميركي خارج الاستعمار البريطاني، ما لبثت أن ارتدت سلباً على حكومة لويس السادس عشر. إذ إن تأثيرها لم يطل سكان المستوطنات الأميركية فقط، بل طال أيضاً الحركة الثورية الفرنسية فيما بعد، والتي استلهمت منها تحركاتها ضد ديكتاتورية لويس السادس عشر، في عام 1789 أي بعد ست سنوات من إعلان الولايات المتحدة الأميركية جمهورية مستقلة عن بريطانيا، لتطيح بحكم لويس السادس عشر.
إفساح المجال أمام الدعاية والترويج لمفاهيم «الثورة الأميركية» التي قادها فرانكلين ببراعة متهجماً خلالها على بريطانيا، كان الخطأ الفادح الذي ارتكبته حكومة لويس السادس عشر، لأنه شكّل أبرز الأسباب التي أوصلته إلى «المقصلة» بتهمة «التآمر ضد الحرية والسلامة العامة» في عام 1793. ويظهر هنا أن التهم الموجهة إلى لويس السادس عشر، هي ذاتها «المفاهيم» التي دعا فرانكلين إلى تطبيقها بوجه الاستعمار البريطاني للمستوطنات الأميركية، عبر مقالاته في صحف الملك الفرنسي. يقول فيليب تايلور، في كتابه «قصف العقول»، تعليقاً على الحادثة، إن الدعاية المناهضة للملكية والتي أوصلت إلى الشعب الفرنسي «فقه الإرادة» قد تلقت دفعة قوية خلال الثورة الأميركية حينما سمح الحكم الملكي الفرنسي لكراهيته التقليدية لبريطانيا بأن تعمي أبصاره عن أخطاء الترويج للثورة الأميركية ضد الحكم الملكي البريطاني.
تعود تلك الحادثة، وبغض النظر عن أسباب ونتائج الثورة الفرنسية، في حينها، لتظهر بتفاصيلها في الدعم الذي قدمه الإعلام الرسمي السعودي لمفاهيم «الثورات العربية». على مدى السنوات السبع الأخيرة، فتحت السعودية صحفها ومنابرها الإعلامية كافة أمام صحافيي ومنظري ما سمي بـ«الربيع العربي»، الذي حمل شعارات شبيهة بشعارات الثورة الفرنسية، من جهة الحريات المدنية وإقامة الجمهوريات الديمقراطية. ومن دون الخوض في نتائج تلك الثورات وأهدافها الحقيقية، فإن السعودية بدأت تواجه النتائج المترتبة، على فتحِ منابرها الإعلامية لمختلف أشكال «المطالب المدنية» الموجهة سياسياً.
شنّت السلطات السعودية، ولا تزال، حملة اعتقالات غير مسبوقة بحق ناشطين حقوقيين ومدنيين و«دعاة»، وصل عددهم إلى أكثر من مئة خلال السنة التي مرت، وفق الأسماء المعلن عنها. يضافون إلى الآلاف الذين اعتقلتهم السلطات السعودية مع بداية «الربيع العربي»، لا سيما في المناطق الشرقية للمملكة التي شهدت حراكاً واسعاً طالب بالحريات والحقوق المدنية. وبعد سنوات من تبني الإعلام السعودي الرسمي لما وصفه بـ«الثورات الشعبية وحق الشعوب في إقصاء الحكّام والحريات المدنية» في بلدان عربية عدة، يعاني نظام الحكم في السعودية حالياً من «المفاهيم» التي روّج لها. فـ«الحريات» التي دعا إلى تطبيقها في سوريا كان أوّل من تلقفها ناشطون حقوقيون سعوديون، رأوا أن بلادهم «أولى بهذا المعروف» من غيرها، وبدأو بالتحرك على الرغم من الصعوبات الأمنية الكبيرة.
فتحت السعودية صحفها ومنابرها الإعلامية أمام منظري ما سمي بـ«الربيع العربي»


تؤكد كاتبة سعودية، فضلت عدم الكشف عن اسمها، لـ«الأخبار» أن «السعودية تعتبر كل الدول العربية والإسلامية في مقام التابع أولاً، أي أنها لا تقارن نفسها بهذه الدول أصلاً». وتشير إلى أن «المفاهيم التي روّج لها الإعلام السعودي لمواكبة ما سميَ بالربيع العربي، إذا أردنا عكسها على الداخل السعودي يتم اتهام المروجين لها سعودياً بالعمالة والخيانة، أي إن المفاهيم والعناوين الداعية إلى الحريات والحقوق المدنية تصنع للتصدير الخارجي فقط في سوريا والعراق واليمن». وتوضح أن «الكتاب والصحافيين الذي يروجون للحريات في هذه الدول هم ذاتهم من يتم استخدامهم لشيطنة وتخوين النشطاء الذين يطالبون بتطبيقها داخلياً»، مستطردة أن من بينهم معتقلين سابقين في السجون السعودية، أمثال تركي الحمد، الذي استخدمته أخيراً للتهجم على الناشطين ووصفهم بـ«العملاء». وتتابع الكاتبة السعودية أنه «مع بداية الثورات العربية، وفي أوج الترويج الذي كان يمارسه الإعلام السعودي للحريات المدنية في سوريا، على سبيل المثال، كانت الآليات العسكرية السعودية تدخل البحرين لقمع الحراك الذي يطالب بالعناوين ذاتها، التي يروج لها الإعلام السعودي في بلدانٍ أخرى!».
تزامنت الاعتقالات خلال السنوات الأخيرة، مع إصلاحات اجتماعية مزعومة حاول من خلالها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الالتفاف على المطالب الشعبية كي لا يكون تحقيقها عبر الحراك والناشطين مصدر قوة لهم، يُستند إليها لتطوير المطالب، والوصول بها إلى الإصلاحات في نظام الحكم. إلا أن النظام السعودي يدين نفسه بنفسه، من خلال الترويج للحريات في بعض الدول العربية، ويسهم من حيث لا يدري في تقوية حجج وذرائع المطالبين بالحقوق المدنية داخل المملكة، ما يؤمّن بشكلٍ تدريجي أرضية لدى الأفراد والجمعيات للتحرك والمطالبة بالحريات، مستندين إلى تبني النظام السعودي لتلك المفاهيم ولو لأهداف مختلفة. وتظهر محاولات بعض رجال الدين التابعين للنظام السعودي «تقديس الحاكم» بصفته «ولي الأمر» الذي لا يجوز الخروج عليه أو معارضته، أكثر سذاجة من مرحلة ما قبل «الثورات العربية»، لا سيما أن هذا الحاكم هو من دعا سابقاً، عبر إعلامه، إلى الخروج على «ولاة أمر» في بلدان عديدة أخرى. يكفي لأي ناشط حقوقي سعودي أو كاتب معارض، أن يستعين بمقال لأحد كتاب صحيفة «عكاظ» السعودية عن «الثورة السورية»، على سبيل المثال، وما يتضمنه من الدعوة إلى الحريات، وإدانات لـ«القمع والاستبداد الذي يمارسه نظام بشار الأسد»، بغض النظر عن صحتها، كي يدين بها قمع الحريات الذي يمارسه النظام الملكي السعودي، بما يدعم حججه!