لا تقتلوا خالد الأسعد مرتين!

  • 0
  • ض
  • ض
لا تقتلوا خالد الأسعد مرتين!
عدم الاعتراف بأنه شهيد، وعدم دفنه في ضريح واحد إلى اليوم

دمشق | مرور ثلاث سنوات على استشهاد عالم الآثار السوري خالد الأسعد (1934- 2015) على يد «داعش» في مدينته تدمر، لم تشفع له بالحصول على صفة «شهيد» (!) ما تداولته مواقع إلكترونية حول العوائق التي واجهها أبناء الراحل في هذا الشأن، تبدو نوعاً من الفانتازيا السورية، أو مسرح العبث، وفي رؤية أخرى: مسرح القسوة. شخصية استثنائية مثل خالد الأسعد لا يجوز العبث بتاريخها على هذا النحو، ذلك أن «حارس الأصنام» دفع حياته ثمناً في مواجهة البرابرة، ولم يغادر المدينة، لحظة هجوم الغزاة. على الأرجح، لم يُقتل مرّة واحدة، إنما مرّات متتالية، فكلما تعرّضت «مدينة الشمس» لغزوة، أو تحطيم تمثال، أو قوس، أو سور، كان يتلقى طعنة في صدره، إلى أن وقع بين أنياب القَتَلة، في مشهد همجي يذكّر بطرق التعذيب التي كانت تشهدها المسارح الرومانية القديمة. ففي صبيحة 18 آب (أغسطس) 2015، ظهرت مجموعة من أصحاب الرايات السود، وتوجهت إلى ساحة المدينة القديمة برفقة العالم الجليل، بعدما يئسوا من انتزاع اعتراف منه بمخبأ الكنوز النفيسة التي كانت تتوزع في أروقة المتحف. أمروه بالركوع استعداداً لذبحه، وكانت آخر عبارة نطق بها «نخلات تدمر لا تنحني». ثم علقوا جسده مقطوع الرأس على أحد أعمدة الكهرباء في الشارع الرئيسي للمدينة، مرفقاً بلائحة اتهام. ليلاً تسلل أحد التدمريين وحمل «رأس الشهيد»، ودفنه داخل سور أحد البيوت، فيما دُفن جسده في مكانٍ آخر. ورغم تحرير المدينة من البرابرة، إلا أن «حلّاج الآثار» ما زال مدفوناً في مكانين، ولم تلتفت الجهات المعنيّة إلى إحداث قبرٍ يليق بجثمان العالم الراحل، كأننا حيال كارثتين: عدم الاعتراف بأنه شهيد، وعدم دفنه في ضريح واحد إلى اليوم. حاملو الأختام الرسمية، لم يجدوا دمغة تفيد بأن خالد الأسعد يستحق لقب «شهيد»، رغم حصوله على وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة، كأنه لم يخض معركة أشدّ ضراوة من المعارك التي خاضها الجنود في الميدان. يروي أحد أبنائه بأنه غرق في متاهات الدوائر الحكومية لاستعادة حق أبيه الضائع، من دون جدوى، كما لم تتمكّن ابنته زنوبيا التي درست الآثار لإكمال مسيرة أبيها الراحل، من الحصول على وظيفة مدرّسة في مدارس مدينة حمص، لأنها لا تحمل وثيقة ابنة شهيد! ربما علينا أن نستعرض وثائق من نوعٍ آخر لإقناع المعنيين بأهمية الرجل: عدا وسام الاستحقاق السوري، هناك تكريم اليونسكو له، نظراً إلى جهوده في توثيق الآثار التدمرية طوال نصف قرن من حياته، الأعلام التي نكستها متاحف روما وباريس وبرلين حداداً على رحيله، أوسمة من مؤسسات عالمية، نحو 40 مؤلفاً أثرياً تحمل توقيعه، تدشين ساحة أثرية باسمه في مدينة بيزا الإيطالية، تمثال نصفي أنجزه النحات الروسي ألكسي تشيبانينكو لتخليد «حارس الأعجوبة»، إنجاز شريط وثائقي عنه بعنوان «عاشق زنوبيا» أخرجه غسان شميط يرصد محطات من حياة عالم الآثار وصولاً إلى خطفه وذبحه، بالإضافة إلى شهادات عن مآثره نحو مدينته. وكذلك إطلاق اسمه على قاعة للمنحوتات الجنائزية الفينيقية في متحف مدينة «باليرمو» الإيطالية، وعلى قاعة في متحف مدينة بوسطن الأميركية، وقاعة المحاضرات في قسم الآثار في «جامعة وارسو». وكان الراحل قد أنجز المشروع الإنمائي التدمري خلال الفترة من 1962 إلى 1966 الذي اشتمل على اكتشاف جزء من الشارع الطويل في مدينة تدمر الأثرية، وبعض المدافن والمغائر والمقبرة البيزنطية في حديقة متحف تدمر، فضلاً عن اكتشافه عدداً من المدافن التدمرية. كتب المؤرخ البريطاني دان سنو في صحيفة «ديلي تلغراف» في رثاء الأسعد: «مات من أجلنا نحن الباقين وكان يعرف أن مدينته المخربة يمكن أن تشفي بلداً مهشماً». نرجو من أصحاب الأختام الرسمية بألا يهدروا دماء الرجل كي لا تضيع تحت رمال الصحراء.

0 تعليق

التعليقات