يخبرنا الناشر ومؤرخ الفن المعاصر ميشيل أرشيمبو عن صمت فرانسيس بيكون عندما نظر إلى أعمال كاظم قبل أن يخبره بأنّ «هذا الشاب سيشق طريقه الخاص بمفرده» لا يسنده فرانسيس إلى عائلته الفنية، مثلما رأى أرشيمبو، وإنّما يعيد انتماءه إلى ذاتهِ، مثل أي فنان يدافع عن فنه عبر فنهِ.
يطلق الشاعر السوري أدونيس تساؤلات جمالية شتى حيال الفنون انطلاقاً من تجربة كاظم وقراءة خاصة للوحتهِ، ومن هذه التساؤلات: «لا تسأل اللوحة من أين أتيتِ، اسألها إلى أين تمضين؟». عندما يتحدث عن لوحة كاظم، يلمح فيها «صورة للحرية يُخيّل لمن يعرف كيف يراها أنّها تبكي». يتساءل الشاعر: «ماذا يعني لك بكاء الحرية في العمل الفني؟ في كل حال؛ ستكون حريتك لفظيّة إذا كنت لا تعرف هل تبكي الحرية منك أم عليك!» عندما يصف لوحة كاظم، يصفها «مثل سفينة تسافر دون أن تغادر مرساها».
تسأل اللوحة ناظرها، حسب أدونيس: «هل رأيتَ الوردة المنزوية خلف عتبتي، والتي تسمى طفولة المستقبل؟». عُرِف كاظم خليل باستخدام القهوة كمادة للرسم، إذ يرى القهوة كائناً اجتماعياً ويرسم بها ليحتفي بما هو زائل ومهمل، يقتفي آثاراً تُمحى كما لو أنّها «أثر الفراشة». يرسم بأصابعه ليحتفي بما تلمسه يداه، يضطرب مع اللون ويشعر باللوحة. يؤكد أنّ ذاكرته البصرية تشكّلت في اللاذقية وهو يذكر تلك المدينة الصادقة والناصعة التي لا تتوقف عن الابتعاد عن صورةٍ، لا يتوقف، بدوره، عن محاولة التقاطها. إن كانت لوحة كاظم تأريخاً لأزمنة الفنان، فإنّه بأصابعه وسكاكينه وشغفه، يصبح بذاتهِ مُستخدَماً من إرث غابرٍ وممّتد. هكذا، لا يعود الفنان منتمياً إلى نفسهِ، وإنّما يصير جزءاً من حركة أشمل وأوسع. وفق هذا المعنى، يشير الشاعر فايز مقدسي إلى مدرسة ألمانية، مفادها أنّ «الإنسان لا يتعلم، الإنسان يتذكر». أمر يشبه مقاربة أدونيس لفن كاظم، إذ تبدو أعماله «كأنّها تجيء من أغوار بعيدة ومعتمة من أماكن يهملها التاريخ بينها الطبقات السفلى من الذاكرة».
تشكلت ذاكرته البصرية في أحياء اللاذقية
تختصر الكاتبة اليسارية الفرنسية فاضلة هبّاج لوحته، باعتبارها صرخة، محاولة ابتكار فردي لمحاربة العنف، عبر تصوير إنسان المعاناة، في لوحة «لا تحتال على العالم» وإنّما تعاندهُ، وترفض لا مبالاته بالموت الذي يحصد الناس في أرجائه عبر نظرات هلعة قادمة من عالم كاظم، من خَلقهِ القوي والعنيف والحساس، المؤرق والجمالي، لتواجه نظرات لا مبالية قد روضتها آلات الحرب والتكنولوجيا. يرفع كاظم عبر ابتكاراته من معيار الفن في وجه الإنسان الآدمي، حتى يتساءل المرء وهو يواجه نظرات قادمة من وجوه كاظم، نظرات متألمة وترشح بالأسى. إذا ما وضع المرء تلك النظرات مقابل نظرات إنسان آدمي صار يتحاشى المجازر ويقتات الروتين اليومي، يتساءل أيُّ النظرات أكثر حقيقيةً وإنسانية؟! أيُّ نظرات تحتضن المعاناة وتختبرها، وتمنحنا المعنى الإنساني! ترى هبّاج في كاظم صوت الطبيعة. صورة عززها المخرج عبر نشر لوحات الفنان بين الأشجار وعند الجداول وفي أطراف الغابات، كما لو أنّ كاظم، حليف الطبيعة وضميرها، يواجه العنف والخراب بروح الفطرة العارفة والنزيهة.
يمسك أرشيمبو لوحة كاظم بين يديهِ، يتساءل حيال ما يثيره فيها؛ هل هي صورة الموت؟ أو لكونها لوحة غير مكتملة، يبحث عن الغاية في عدم اكتمال أجساد تأخذ هيئة الإيماءة والانكشاف الخلّاق. في المقابل، يرسم كاظم شعوره بنقصان العالم، بين ما يريده الفنان وما يبحث عنه الناقد. تشرق لوحات كاظم خليل بعنفها اللوني، تنبثق الأجساد مليئة بالهشاشة ومحصنة بالقوة، بنظرات هلعة رأت النهاية وعادت لتنذرنا وتومض بخلاصنا.