لا يتوقف الروائي السوري خليل الرزّ (1956) عن نصب شراكه في طريق قارئ روايته الجديدة «بالتساوي» (دار الآداب ــ بيروت)، حين يضيّع عمداً جغرافية الأمكنة، ويُدخل شخصيات روايته في متاهة يصعب التقاط بوصلتها الصحيحة، وتالياً، ستغرق هذه الشخصيات بطبقات من الأوهام، في محاولتها استعادة توازنها، أو الهروب من أقدارها الصارمة إلى عدمية مطلقة.
هكذا تتناوب الفصول «بالتساوي» بين عبد الهادي وصديقه الأستاذ سميع، في رحلة تيه عبثية، تجري وقائعها خلال ليلتين فقط، بقصد نسف نمط حياة مملّة. يقرر عبد الهادي الهروب في ليلة زفافه من عبء مناسبة، رتّب وقائعها أهله، على ضوء اتفاق قديم بأن تكون بديعة من نصيب عبد الهادي، مثل أي صفقة بين تاجرين في سوق الحميدية. يلجأ إلى صديقه سميع الموظف في مركز إحياء التراث العربي، ويقوده مخفوراً، إلى ملهى ليلي. يقع عبد الهادي في غرام الراقصة التونسية «أزهار»، ويفقد صوابه، في مغامرات مجنونة، إذ يلحق بها إلى مكان إقامتها في الفندق، ويحاول التسلل إلى غرفتها، قبل أن ينتهي إلى جسد محطّم بالكدمات، لكنه لا يأبه بما أصابه، ويذهب في الليلة التالية إلى الملهى، ليجد «أزهار» في صحبة تاجر أغنام. وسنفاجأ هناك بموقف مباغت، حين يكيل سميع شتائمه في وجه تاجر الأغنام الشرس، دفاعاً عن الراقصة، فهو الآخر، كان قد وقع في غرامها، وعلى عكس ما توقّع تماماً، لم يهجم عليه تاجر الأغنام، أو نادلو الملهى. يخرج سالماً من المكان، فيما ينتهي عبد الهادي بين يدي بديعة، من دون أن يذوي شغفه بأزهار.
يلجأ خليل الرزّ إلى لعبة سردية، سبق أن جرّبها في روايات أخرى من خلال ترحيل الأمكنة الواقعية إلى جغرافيات متخيّلة، كأن يصعد عبد الهادي بسيارة تاكسي من شارع التجهيز في دمشق ليجد نفسه في شارع بارون في حلب، أو ساحة عامة في الرقة، من دون أن ترتبك المخيّلة السردية، في رسم مسارات لما يتوقّع حدوثه بعد قليل، ثم نسف هذه التوقعات بتأثير فكرة أخرى. كأن صاحب «سلمون إرلندي» يجد لذّته البلاغية في تدمير البنى المشهدية المتوقّعة، وبناء مشهديات مضادة، وفقاً لهذيان المخيّلة المشتعلة بالطبقات المتراكمة لتاريخ هذه الشخصية أو تلك. هذا ما يجعل تمرّد سميع على تاريخه الشخصي الرصين، مجرد اقتراح سردي مجاور لمقترحات أخرى، قابلة للمحو، في أي
لحظة.
حين يذهب لمقابلة ابتسام في مقهى النوفرة، بعد عشرين سنة من انطفاء قصة حبهما، كان سميع قد قرّر إنهاء هذا اللقاء على عجل، لكنه، في نهاية المطاف، يطرح عليها الزواج منه فوراً، بعد أن يحطّم نظارتها الطبية، وتلحقه مثل عمياء، في الوقت الذي كان يستعيد خلاله، ذكرياته في معسكر تثقيفي للحزب الشيوعي، أو ذهابه برفقة عبد الهادي إلى ماخور في حلب، من دون أن يغادرا مكانهما في دمشق. هذا الولع في نسج العلاقات غير المرئية بين أمكنة بعيدة، ويوميات مضجرة لشخصيات تعيش تيهها الوجودي، هو رهان خليل الرز في المقام الأول، لجهة إشعال حياة موازية في مواقد، تبدو لوهلة، بأنها مطفأة، منذ زمن بعيد، بقوة السرد وحدها، والغوص في الطبقات الخفيّة للأرواح المعذّبة وفحصها عن كثب، من خلال ابتكار وقائع غرائبية، وحسّ تهكمي صريح، بقصد إطاحة الجديّة من جذورها، لمصلحة الخفّة في اللعب، نحو جنون خلّاق، وحفر في أرض سردية مختلفة. كأننا حيال نموذج آخر من شخصية «أبلوموف» (1859) في رواية الروسي إيفان غونتشاروف، التي تحمل الاسم نفسه، في مديح الكسل، والانصياع للريح التي تقذفه في دروبها المتعرّجة والشائكة والغامضة، من دون أن يصل إلى مبتغاه.
اللافت هنا، استغراق الراوي في جلب مفردات عامية وزجّها في سياقات بلاغية من فضاء آخر، في رهان آخر على تحطيم المركزية السردية للرواية السورية، والذهاب بحريّة إلى عاميّة الأطراف، واستثمار جمالياتها المخبوءة في المتن الحكائي، وخلال لحظات الذروة لالتقاط نبض حركة الشخوص ومكائدها المضمرة.
على مقلبٍ آخر، تحضر شخصيات أنثوية منكسرة مثل بهيجة صاحبة البيت الذي يقطن إحدى غرفه سميع، وبديعة الغارقة في رائحة الأدوية في صيدليتها، والعمّة بهيرة ضحية العزلة الأبدية، وأزهار المحكومة بابتذال جسدها، وفقاً لبنود عقد الاذعان مع صاحب الملهى، كأنهنّ جميعاً ضحية هذه الذكورية الخرقاء التي تتجوّل على هواها بلا
ضفاف.