بعد روايته «شريد المنازل» التي بلغت اللائحة القصيرة في «بوكر» العربية، ونالت «جائزة الأدب العربي الشاب في باريس» لعام 2013، يعود جبّور الدويهي في «حيّ الأميركان» (دار السّاقي) ليبحر في التفاصيل الغنية لطرابلس، المدينة الرّابضة بسكون على كتف المتوسّط، يعتمل داخلها صخب لا يهدأ.
بواسطة أسلوبه السردي المتقن، يروي صاحب «مطر حزيران» بكثير من الحرفة حكاية طرابلس في رحلة منفلتة من الزمن المحدد بدقّة، مكتفياً بمفاتيح دلالية تعود بالقارئ إلى بدايات القرن العشرين، ليمضي الزمن بانسيابية ـ من دون أن يكون محكوماً بالتراتبية ـ فيصل إلى يومنا هذا. يبني الدويهي شخصياته من مفردات المدينة وروحها، مما يجعله منعتقاً من الخوض في وصف الفضاء الجغرافي لمسرح الأحداث، مكتفياً بالغوص في أعماق شخوصه، ومتابعة تفاصيلها اللصيقة بالمكان لتتشكّل صورة المدينة كمن يعيد رسمها واكتشافها عبر أنفاس أبنائها واختلاجاتهم.
بين حي الأميركان وقصر آل العزّام مسافة ضئيلة، إلا أنّ مسافات أخرى تفصل المكانين ليبدوا من عالمين مختلفين. لعلّ التفاح المغطّس بالسكر (حلوى الفقراء) هو الأقدر على اختصار تلك المسافات. هذا الطعم الحلو الذي تذوّقه عبد الكريم العزّام طفلاً من يد الطفلة انتصار في رحلته الاستكشافية لعالم غريب عنه يتاخم حدود قصر عائلته لن يزول. سيبقى مرافقاً له عبر مراحل حياته التي أكدّت له دوماً أنّ «الدنيا هي حيث لا يكون». يتحطّم تمثال مصطفى العزّام جرّاء تفجيره بعدما ظلّ زمناً طويلاً يقف على بوابة المدينة ممسكاً بيده وثيقة إعلان الاستقلال الوطني. تنشب مجدداً حرب أهليّة، حاملة لعبد الكريم مصيراً جديداً هذه المرة، بعدما تخلّى عن الشعر، ليجد نفسه في باريس يعتني بأشجار الليمون القزمة التي أهدته إياها حبيبته الفرنسية. أشجار يحملها معه في رحلة العودة ليقتات بذكرى حبيبة قديمة كلما تنشّق رائحة أوراق الليمون القزمة. بسلاسة ويسر، يتنقّل الدويهي بين شخوصه وحكاياتها تاركاً للقارئ مساحته الخاصة لإتمام معالم المشهد. في «حي الأميركان» تنجب انتصار أبناءها الثلاثة، وترث خدمة آل العزّام عن والدتها. بينما يرث ابنها اسماعيل عن والده مسدساً استخدمه الأب سابقاً في معركة انتقامية لمقتل أحد الشيوخ، كما يرث عن محيطه سلفيّة دينيّة تقوده إلى العراق سعياً خلف مصير يجهل كنهه. هاتف نقّال يبثّ آيات قرآنيّة عند الرنين بات الأمل الوحيد لانتصار للاطمئنان إلى ولدها. هاتف يرنّ مراراً وتفشل بالردّ عليه. انتصار التي يسعى ابنها للخلاص مما هو فيه توقاً إلى دفئها، والتي لم ينس سليل آل العزّام طعم تفّاحها المغطّس بالسكر. يتلاقى وريث حي الأميركان مع وريث آل العزّام مجدداً، وتتلاشى المسافات بواسطة سرّ مشترك. بينما يهيم والد اسماعيل على وجهه «راوياً بطولاته في موقعة باب الحديد، مضيفاً إليها بطولات ابنه الشهيد».
رواية تفاصيل بامتياز. تفاصيل امتلكها الدويهي وراح ينسجها مطرّزة بدقة متناهية، ليرسم بواسطتها صورة بانورامية غنية لمدينة تلفّق لنفسها الكثرة عوضاً عن صغرها. تجد نفسها في قلب أحداث عالمية وجزءاً منها، كأنّ كلّ ريح تهبّ في أصقاع الأرض تُسقط ورقة ليمون على أرضها القابعة فوق رمال متحرّكة.