في أواسط الثمانينيات، استقر الروائي حسونة المصباحي (من مواليد قرية الذهبيات في ريف القيروان ـــ 1950) في مدينة ميونيخ (عاصمة إقليم بافاريا في ألمانيا) حتى عام 2004. هناك، بدأ يكتب رسائل مفعمة بالحنين إلى أصدقائه الموزعين بين الشرق والغرب بعدما وجد في ثلوج بافاريا الملاذ الآمن والدافئ بعد سنوات من المرارة والبطالة والتشرد في بلاده تونس «التي تقسو على أبنائها» كما قال في أحد كتبه. عندما كتب المصباحي تلك الرسائل الصغيرة الطافحة بالشعر، لم يكن يدري أنّها ستتحول بعد نحو ثلاثين عاماً إلى عمل أدبي صدر أخيراً عن «دار آفاق» في تونس. الكتاب الذي سمّاه المصباحي «رسائل إلى أصدقاء بعيدين» وهو عنوان الزاوية نفسها التي نشر بها في الصحف والمجلات التونسية طوال نحو ثلاثين عاماً، يكشف عن تحولات المشهد الثقافي والسياسي في تونس والعالم العربي وأوروبا. هو يؤرخ في أسلوب حميمي مفعم بالشعرية للتحولات التي بدأت أساساً منذ سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وتصفية المقاومة الفلسطينية وصولاً إلى حرب العراق والهجمة الوهابية الإرهابية وما سمّي الربيع العربي.

في الكتاب (صدر في ٢٥٤ صفحة)، يحاور المصباحي أصدقاءه حول قضايا الفن والأدب وشواغل السياسة وأحياناً الحب والصداقة والموت. نقرأ رسائل عذبة تعيدنا إلى زمن الرسائل الأدبية في النصف الأول من القرن الماضي الذي شهد ولادة مشروع التنوير المجهض.
رسائل حسونة كانت إلى أدونيس، ونجيب محفوظ، وإميل حبيبي، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري، والطيب صالح، وصموئيل شمعون، وعبد الوهاب البياتي، وإدريس خوري، وأمجد ناصر، وهشام شرابي، ومحمد شكري، ومن تونس الحبيب بوعبانة، وأولاد أحمد، ونجيب بلخوجة، وصالح بشير، وعلي مصباح، وعبد الجليل بوقرة، وسعاد بن سليمان، والعفيف الأخضر، وكمال الهلالي وغيرهم.
حسونة المصباحي الذي عرفناه روائياً وقاصاً ومترجماً، قدم في عمله الجديد لوناً جديداً من الكتابة، إذ يقدم قراءاته في تجارب روائية وشعرية وتشكيلية وفكرية على شكل رسائل. لكن روح حسونة وتجربته ومرارته تحضر مبثوثة في الكتاب. كذلك خصّ تجربته بنصين بديعين: «مرثية إلى أبناء جيلي» التي يقدم فيها قراءة في تجربة اليسار التونسي الذي انتمى إليه، وانسحب منه مبكراً غير آسف على شيء. كذلك يرثي نفسه في نص آخر بعنوان «عليك أن تنأى بنفسك عن كل هذا».
الكتاب يشبه حسونة في غضبه وانسيابه وحبه لأصدقائه. لكنه كتاب حزن يلخّص تجربة طويلة من المرارة والسفر والحلم والخيبة: «أواصل سيري وحيداً كما لو أنّني أنزل إلى قاع هاوية... لقد انتهى كل شيء أقول، وها أنا أترهل، وأبرد، وأجف. وفي جسدي ينطفئ هيجان سنوات الشباب الذي ولى. وسنوات الغربة فعلت بي ما فعلت» (ص ٢٤٨). هذا العمل هو كتاب المحبة في مشهد ثقافي عربي مريض بالنميمة ومحاربة طواحين الهواء.