أول ما يباغتك به عزت القمحاوي (1961) في روايته الجديدة «البحر خلف الستائر» (دار الآداب)، هو اختيار الأمكنة الاستثنائية، واقتحام غموضها من الداخل، لتتكشّف لاحقاً عن سحرٍ خفي، بالتطريز المتمهل والآسر لسجادته السردية. سيحيل نصّه الجديد الذي تدور وقائعه داخل برج زجاجي ضخم، يقيم فيه الطارئون، في مدينة خليجية، يطل على البحر، إلى روايته «مدينة اللذة» مغلقاً القوس على ذلك العالم الغرائبي المشحون بالشهوات السريّة. لكن مهلاً، ألم يرصد عالماً ضيّقاً في روايته «غرفة ترى النيل» في وصف جسد يحتضر داخل غرفة مستشفى؟ وماذا بخصوص «الحارس» ذلك العسكري الذي يجد نفسه أسير تعليمات صارمة داخل قصر رئيس البلاد، من دون أن يراه مرّة واحدة؟ الاشتغال على جماليات المكان المغلق إذاً، سمة أساسية في أعمال صاحب «بيت الديب» (جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية ــ 2012)، إذ يضع نفسه في تحدٍّ صريح أمام طبقات الحكي وتقليبها فوق نار هادئة. لن يخرج «الطارئ» من البرج الذي يقيم فيه، مرّةً واحدة.
لكن الوحشة التي يعيشها تجعله يبتكر أسباباً للعيش، مستنفراً حواسّه لالتقاط ما يجري حوله، وترميم عطب العزلة بتدبير مكائد صغيرة لاستنشاق أوكسجين ليس متاحاً كما ينبغي، فهو يكتفي بالذهاب إلى بركة السباحة في البرج، فيما يقع البحر على مرمى نظره، وتضيق دائرة الاختناق أكثر، حين يجد في بانيو حمّام غرفته ملاذاً آمناً لأحلام يقظته. أحلام اليقظة سكة أخرى لقطار حياته المعطّل، وسردية موازية لهدم جدران الصمت. حتى إنه يجد في حديثه مع الفتاة الآسيوية التي تعمل في خدمة الغرف تمريناً على الحكي أو الكلام. ورغم ضيق الغرفة كفضاء دلالي، إلا أنّ القمحاوي يغامر بمجريات السرد إلى مناطق أكثر احتداماً، كأن يهدر الراوي ساعات طويلة بالتلصص من ثقب الباب عمّا يجري في الخارج، ذلك أنّ غرفته تطل على الممر إلى المصعد، مراقباً عبور جارته الصقليّة باتجاه المصعد، واختراعه ذرائع للنزول بصحبتها في هذه العلبة المغلقة. هنا يذهب السرد إلى مربعٍ أصغر، حين يسعى الطارئ إلى اقتحام حياة الصقليّة، لكنه ينتهي بالفشل والخيبة والخواء. هكذا يتواتر السرد في متواليات هرمية تتضاءل تدريجاً (البرج، الغرفة، المصعد) في رهان على اختبار عزلة الكائن الغريب والمحزون فوق أرض زلقة، يصعب الانتماء إليها، إذ يتسرّب الرمل من بين الأصابع، فيما تذبل الحواس والأعضاء على مهل، لتكتمل حالة التصحّر الروحي. «أسوأ ما هنا، كثرة السحاب وقلّة المطر» يقول الراوي، مختزلاً مكابداته في هذا القفص الزجاجي الضخم، لكنه في المقابل يفحص معنى الهشاشة والفشل وآلام الوحدة، وعبودية المكان الطارئ بأعرافه الصارمة. اختبار الصوت والصمت في تناوبهما، ثيمة سردية أخرى تنطوي على ألم أعمق، فانزعاج الراوي من صرخات الشهوة الأنثوية من جدار غرفة جاره، أثناء قيلولته، ينتهي باقتحام الغرفة، ليكتشف أن جاره وحيد مثله، من دون امرأة، وأنّ الأصوات التي كان يسمعها مصدرها جهاز الكمبيوتر الذي يتوسط السرير، في صور مختلسة لنزيلة أخرى. وإذا بهما ضحية عزلة متشابهة في أسبابها، رغم مسالكهما الحياتية المختلفة، وهذه المرارة تعيشها كاثرين نادلة المقهى في البرج بطريقة أخرى. الإشارات المتبادلة بين الراوي والنادلة ظلت عند حدود الاشتهاء الصامت، كأن الخيبة وحدها من يتحكّم بمصائر هذه الشخصيات، بصرف النظر عن محاولاتها المستمرة لتجاوز محنة المكان المغلق: «يجدون أنفسهم وسط كهف الذكريات الذي انزلقوا إليه خطوة خطوة من دون أن يتمكنوا من معرفة اللحظة التي بدأ فيها زحفهم العكسي».
يزاوج الروائي المصري بمهارة بين الحركة المحدودة في المكان، والجملة القصيرة المتوتّرة التي تذهب في كثافتها التعبيرية إلى مقاصدها مباشرة. حركة الراوي الذي يقطن في الطبقة الثانية والعشرين من البرج لا تتجاوز صالة الطعام أو صالة الرياضة، في حركة صعود ونزول، غارقاً في الماء الاصطناعي، فيما تغطي الستائر حركة العالم الخارجي، أو البحر، كأنه في سجن لا أكثر «يحاول تجميع كِسَرِ الكلام» وشظاياه من وجوه طارئة قادتها ظروفها القاسية إلى هذا المكان الذي لا يعرف تبدّل الفصول. يفترق السرد الروائي لدى عزت القمحاوي عن أقرانه، لجهة الكثافة والصقل والتأمل، كأنه من سلالة الياباني ياسوناري كاواباتا، لحظة إنجازه «بيت الحسناوات النائمات»، وربما هاروكي موراكامي في نسخةٍ ثانية.