من أي مكان في مدينة الحوائط، كان يمكنك قديماً أن تشاهد جبل الكحل الضخم داكن الزرقة، منتصباً بشموخ عند تخومها. في سفح الجبل كانت تجلس، ذات يوم بعيد، تلك المرأة الحكيمة، التي لا تملك سوى عين واحدة في منتصف وجهها: عين واسعة جداً ومكحولة على الدوام، تتحرك فيها ثلاث حدقات وليس اثنتين مثل بقية البشر. كان البعض يسمونها المرأة ذات العين الواحدة، ويسميها آخرون المرأة ذات الحدقات الثلاث، وكان كل فريق محقاً في وصفه. في محيط ذلك الجبل، يعيش الآن جيلٌ من أحفاد الأحفاد على ذكرى لعنة لم يروها. يكادون يتحولون إلى أشباح فاقدين، يوماً بعد آخر، القدرة على التجسّد، وكأنهم ولدوا من لعنة تلك المرأة.
إنها امرأة غريبة، كانت تسلي وقت فراغها بوضع حفنات قليلة كل صباح من المسحوق الناعم حول عينها، لتكحلها، فيزيد اتساعها. كل من رأوها قالوا إن عينها كانت جميلة بالفعل، تتحرك فيها الحدقات الثلاث بثلاثة ألوان مختلفة: واحدة سوداء، وواحدة زرقاء، وواحدة خضراء. تبدو كأنها ثلاث سمكات زينة تسبح في بئر واسعة بيضاء متلاطمة الماء. رغم ذلك، لم ينكر من رأوها وجهاً لوجه أن عينها مخيفة أيضاً بقدر جمالها، وهكذا عرفنا أن الجمال لا يكتمل دون قدرٍ من الرعب.
بالتحديق في عينها، كان النسل الأول لسلالتنا، والذي جاء للحياة في محيط الجبل العجيب، يكتشف أن ماءها الأبيض يتجعد كموجات البحر الهادرة، تتدافع في مد وجزر لتصطدم بسور الكحل الصلب المحيط بها. ينجح بعض الماء في القفز من فوقه مغادراً عينها، فتكون الدموع، التي تسيل داكنةً في خيوط طويلة بامتداد ثوبها الفضفاض.

كانت عينها تلك سراً كبيراً غامضاً، كوجودها ذاته. رغم أنها لم تكن جميلة، فضلاً عن أن جسدها كان ضئيلاً متيبساً مثل فرع شجرة عتيقة منكفئ على نفسه، إلا أن جميع نساء المدينة الآخذة في التكوُّن كنّ يحسدنها في سرهن، لجمال الكحل الذي يتوّج عينها الكبيرة. لم يكن الكحل قد عُرِف بعد في العالم، وكان المكان الوحيد الذي يتوفر فيه ذلك المسحوق السحري هو جبل المرأة ذات العين الوحيدة، والتي كانت تبدو امتداداً له وكأنها ولدت من ترابه.
لم تبخل على شخص في المدينة بنصحها أو عطاياها الكثيرة من أدوية ووصفات وأطعمة سحرية وسوائل غريبة اللون والطعم، غير أنها رفضت بحسم كل الرجاءات بأن تعير أي امرأة ولو قدراً ضئيلاً من الكحل الذي تضعه في عينها، وهو ما دفع النساء إلى التخمين أن قدراتها السحرية وحكمتها العميقة مصدرها جبل الكحل الذي لا ينفد أبداً على مر السنين، رغم أنها لم تكن تضيف إليه.
لم يكن الناس يعرفون أن دموعها التي تسقط منها على الدوام تكون ممزوجة بالكحل، وحين تجف تتحول إلى قطع صلبة ما تلبث أن تصير كحلاً من جديد تعيد المرأة استخدامه، وهكذا صارت كل ذرة كحل في الجبل تحمل رائحة الدمع.
من جهتها، لم ترُدّ المرأة على أسئلة أحد في ما يخص ذلك الشأن، لأنها، كأي امرأة حكيمة، كانت مقتنعة بأن عذاب الإنسان يبدأ حين يسأل عما لا يجب أن يعرفه.
إنها امرأة معمرة، رأت هذه المدينة منذ كانت مساحة من الخلاء، وكبرت المدينة أمام عينها كما لو كانت طفلها اليتيم، حتى صارت متاهة من الحوائط التي لا أبواب لها.
لا يعرف الأهالي عن تاريخها شيئاً، ولا يعلمون السبب في شكلها الغريب، لكن الجميع ممتنّون لها على الدوام، ليس فقط لأنها كانت تعيد السكينة للمعذبين، لكن لأن هذا الجبل حمى المدينة من الرياح القوية التي كانت تصطدم به لتعود أدراجها، والتي كان بوسعها أن تدمر حوائط المدينة وتحوِّلها في لحظة إلى عدم، كذلك استخدمته المرأة في الغزوات التي تعرضت لها المدينة، حيث كانت تملأ كفيها بحفنات من الكحل وتقذف بها في عيون الأعداء فتصيبهم بالعمى. تمر السنوات، لا المرأة تشيخ ولا جبل الكحل يتناقص.
رغم إعجاب النساء بها، إلا أن غيرتهنّ كانت تتضاعف يوماً بعد يوم، إلى أن جاء يوم قررن فيه أن يذهبن جميعاً إلى جبل الكحل ويغترفن منه. لأنها حكيمة، عرفت المرأة ما إن شاهدتهن ما جئن من أجله. قالت لهن قبل أن تنطق إحداهن بكلمة: «أنتن تردن هذا الكحل لعيونكن، تعتقدن أن فيه سراً خلودياً وحكمتياً، وتتناسين أنني لا أملك سواه. ليس لي زوج مثلكن ولا بيت ولا أبناء... فضلاً عن شكلي الغريب وجسدي الضئيل.. أتستكثرن عليَّ الشيء الوحيد الذي أملكه؟».
أطرقت النساء لثوانٍ، لكنهن أفقن سريعاً، مقرراتٍ ألا يستمعن للمرأة وألا يفكرن في كلامها. أخذن يقتربن من جبل الكحل وتدافعت الأيادي لتنهب كل امرأة ما تقوى عليه. هنا أكملت المرأة بابتسامة: «أستطيع أن أمنعكن، وأن أوقف أياديكن بنظرة، لكنني لن أفعل... لأن الخسارة لن تكون من نصيبي».
عندما أكملت عبارتها، كانت النساء قد أنهين تقسيم جبل الكحل، وتفرّقن بأجولتهنّ التي عبأن فيها غنيمة المسحوق الداكن، وكانت تلك هي المرة الأولى منذ عرفن جبل الكحل، التي تعود فيها كل امرأة من طريق. اختفت من بعدها المرأة إلى الأبد، وصار وجودها منذ ذلك الحين ذكرى.
في اليوم التالي، استيقظت كل امرأة وضعت الكحل في عينيها بعين واحدة بيضاء في منتصف وجهها، بلا حدقات، تسيل منها دموع حارقة على الدوام، بينما تحوَّل موضع جبل الكحل إلى عين ماء واسعة، تسبح فيها ثلاث سمكات كبيرة. ولأن البحيرة كانت بلا سور يحتجز مياهها المندفعة، فقد بدأ الماء يسيل في لطمات متلاحقة مجنونة، متجهاً نحو بيوت المدينة التي بلا أبواب، ليُغرقها. كان الماء يسير في كل الطرق الرفيعة التي تجعل من المدينة متاهة، والتي يكفي الواحد منها شخصاً واحداً بالكاد.
فشلت كل المحاولات في بناء أسوار حول عين الماء الهادرة، فقد كان اندفاع الماء دائماً أقوى من كل الحواجز، قادراً على إذابة الطوب والحجارة والفولاذ وجميع المواد الأخرى التي جربها الأهالي ليتفادوا الغرق. مع شروق كل شمس جديدة، كانت المدينة تفقد بيتاً أو أكثر، حتى جاء يوم قرر فيه الرجال أن يستخدموا ما تبقى من كحل في بيوتهم لإحاطة الماء به. توجه الرجال بأجولة الكحل، أفرغوها حول عين الماء، وكانت المفاجأة أن الماء هدأ مستسلماً كأنه دم نازف انبجس فجأة. هكذا صارت المدينة تطل على بحر من الدمع، سيصير في ما بعد ميناءً تتوقف فيه السفن ليهبط منها كل أنواع الغرباء الذين لم يخرج أحدهم من المدينة إلّا وزرع فيها سبباً جديداً للدموع.
كف الماء من يومها عن مهاجمة المدينة، وصار يصطدم بالسور الجديد المتين من دون أن يقوى على تفتيته أو إذابته، عدا موجات قليلة بين الحين والآخر، كانت تتمكن من القفز فوقه، تتجول في شوارع المدينة برفق، لتُذكّر الناس بدموع امرأة قديمة، وبجبلٍ داكن الزرقة تحوَّل مكانه إلى ذكرى بعيدة.
* من مجموعة «مدينة الحوائط اللانهائية»