بعض الأعمال المشهديّة الكبرى تستمد هويّتها ووجودها من الرؤيا السينوغرافية التي تقوم عليها. هذا صحيح في المسرح والباليه والأوبرا والرقص المعاصر، من غوردون غريغ إلى بوب ويلسون، مروراً بريشار بيدوزي شريك المسرحي الفرنسي الراحل باتريس شيرو. ولا شكّ في أن «وتدور»، عمل عمر راجح الأخير، يصنّف في هذا الخانة. هذا العرض المفاجئ الذي يقدّم الليلة للمرّة الأخيرة على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، سينوغرافي بامتياز، يكاد يتماهى مع إطاره. إنّه ثمرة لقاء بين مصمم الرقص اللبناني المشاغب، وفنّان معاصر يصعب تصنيفه هو التشكيلي الفلسطيني ناصر السومي.
فكرة البلاتوه الدائري الذي يتحرّك مع تقدّم العرض من المستوى الصفر (الأفقي) إلى وضعيّة عموديّة، فيما ميا حبيس وبسام أبو دياب يواصلان فوقه رحلتهما المضنية. لنقل إن الخشبة بأسرها ترقص، على وقع موسيقى شريف صحناوي الملموسة والحسية والرتيبة والتصاعديّة. العنصر الصوتي مكمّل للبعد الرابع الذي اخترعه السومي وراجح. البعد الرابع، قوس دائرة من ٩٠ درجة، يولّد تلك الانحناءة/ الحركة/ الاستدارة/ التبدل في زوايا النظر.
في «وتدور»، يفلت المَشهد من الاختراع التقني البحت، ليشرّع لنا آفاقاً هندسيّة وفلسفيّة وعلميّة وجماليّة خصبة. ما معنى أن يتحوّل الأمامي إلى سفلي، والخلفي إلى أعلى؟ التقدّم يصبح هبوطاً، والتراجع ارتقاءً. ما معنى أن تراقص الجاذبيّة، أن ترقص المستحيل، أن تقاوم من أجل البقاء؟… على المستوى الكوريغرافي البحت، ماذا يحدث حين تغيّر حقل الرؤيا، وقواعد المنظور، فإذا بالمشاهد هو الذي يتحرّك (يرقص؟) في النهاية، كأنّه معلّق في الفضاء ينظر إلى الخشبة من أعلى؟ فعلها الكندي روبير لوباج ذات مرّة مع «هاملت». رحلة افتراضيّة يدعونا إليها عمر راجح الذي رفع التحدّي، ولم يترك الآلة الضخمة تسحق رؤياه وكتابته الكوريغرافيّة. الخشبة تصبح مرآة لتساؤلات وجوديّة، وحسيّة، وبصريّة مختلفة. ورقة بيضاء، شاشة يلطّخ عليها مازن كرباج بقع الضوء، وهلام المادة اللزجة، ماء ودم وحبر وافرازات. الخلايا وجزئيات المادة في عدسة ميكروسكوب، كواكب عبر منظار تلسكوب. البلاتوه تحوّل إلى لوحة. بين البقع، في شبكة العنكبوت، يتحرّك الراقصان كالدمى البيوميكانيكيّة التي بشّر بها مايرهولد. رقص بلا أرضيّة ثابتة وصلبة، جسدان معلّقان يتلاقيان ويتنافران على خلفيّة قمر مكسوف. يتخبط الجسد على المساحة المحنية ليبقى شبه متعامد معها. إنّه الرقص على شفا الهاوية، لحظة تغيّر الأبعاد واختلاط الاتجاهات، في لعبة مواجهة بين القوة الميكانيكيّة القوّة العضليّة، بين الضرورة والحريّة.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@