هم أطفال حُرموا من حقهم في اللعب وممارسة حياتهم الطبيعية، وسجنوا في غرف وأروقة تفوح منها رائحة الأدوية الكيميائية. ما الذي يمكن أن يخرق جدران القلق والألم والشعور بالوحدة والضغط النفسي لدى طفل في بداية مراحل نموّه؟ مَن سيعنى ببثّ روح المرح والبهجة في حياة طفل تتأرجح بين المرض والموت؟ إنّهم «د. لمبة»، و«د. وردة»، و«د. عوافي»، و«د. غري غري»، و«د. قشطة»، و«د. عفكرة»، و«د. لحظة»، و«د. طقّة»، و«د. ضايعة»، و«د. نجمة»! إنّهم عشرة أطباء مهرّجين يجوبون المستشفيات اللبنانية. هم ليسوا بأطباء ولا بمهرّجين بالمعنى السائد للكلمة. إنّهم أشخاص بأنوف حمراء، يلبسون رداء الطبيب الأبيض مع أغراض ملونة تخرج من جيوبهم. مكنسة صغيرة تحملها الطبيبة المهرّجة ماريليز عاد تهدف إلى تكنيس الهموم عن الكتفين. أهم ما لديهم أذن صاغية وروح مهرّج تحاكي خواطر الطفل من خلال اللعب والارتجال، في إطار فني يدغدغ خياله وفضوله، فتبعث ابتسامة على شفتيه الصفراوين.

يندرج هذا المشروع ضمن برنامج «ابتسامة» الذي أطلقته رولا وعلي مهنا في لبنان عام 2009 ضمن جمعية «أجيالنا». توسّع المشروع لاحقاً، فأنشئت «جمعية ابتسامة» بشكل مستقل منذ بداية 2012. وضعت الجمعية منهجية عمل مطابقة لمنهجية جمعية «تيودورا» السويسرية (المستشار الحصري لـ«ابتسامة»).
بدأ عمل الطبيب المهرّج للمرة الأولى على صعيد احترافي في نيويورك عام 1986 قبل أن ينتشر في ولايات أخرى. لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي يعمل فيه أطباء مهرّجون محترفون يصل عددهم إلى عشرة أشخاص يزورون أسبوعياً المرضى الصغار في مستشفيات «الجامعة الأميركية»، و«رفيق الحريري»، و«أوتيل ديو»، و«المقاصد».
يرى الأطباء المهرجون أنّ هناك اختلافاً بين مفهوميْ المهرّج والطبيب المهرّج. ففي حين قد يتمرّن الأول على مشهد يقدمه كعرض ويكون هدفه إضحاك الناس، يدخل الثاني غرفة الطفل المريض للارتجال مع طبيب مهرج آخر من دون إعداد. يقول فؤاد يمّين من المشروع إنّه «قبل أن نفتح باب الغرفة، لا نستطيع أن نتكهّن بما سنقوم به. نحن لا نهيّئ مشاهد لنقدمها بل نعتمد على التفاعل مع الطفل». الأذن الصاغية هي أهم العناصر التي يرتكز عليها الطبيب المهرج منذ أن يبدأ بالارتجال الى أن ينهيه. في كل غرفة، هناك طفل في حالة تختلف عن الحالات الأخرى. يؤكّد هادي دعيبس «لدينا لحظة علينا أن نقضيها بشكل شفاف مع المريض. الطبيب المهرج يكون بكامل شفافيته رغم الشخصية التي يؤدّيها، وهذا الأمر تطلّب منا الكثير من العمل على المستوى النفسي».
تعتبر سارة زين العمل في هذا الإطار إضافة معنوية تقدمها إلى الطفل وليس عرضاً لقدراتها التهريجية. الطفل شريك أساسي في اللقاء يساعد الطبيب المهرج على التقدم. في هذا الإطار، تذكر زين حادثة لا تنساها. بعدما علّمتها فتاة عراقية مريضة أغنية «جنّة جنّة»، دخلت زين غرفتها بعد فترة لكنها لم تتعرّف عليها بسبب التورم على وجهها. «عندما انتبهتْ الفتاة الى ذلك، أقدمت على غناء الأغنية بصوت خافت، فتعرّفتُ عليها وأكملنا الأغنية معاً».
في حالات الغيبوبة، يقول هادي دعيبس إنّه غالباً ما يتفاعل الطفل مع عزفه الحي على آلة الفلوت، لأنّ الطفل في الغيبوبة يسمع غالباً. وعن أصعب اللحظات التي يواجهها الطبيب المهرّج لدى دخوله غرفة طفل يحتضر، يقول فؤاد يمّين «أدخل إليه وأنا أعرف أنّها ستكون للمرة الأخيرة. ترين أهله في حالة صعبة، فتتساءلين عمّا تفعلينه هنا. أقف الى جانبه، أعزف له. أتكلم مع أهله. كأني انتزعت الأنف الأحمر». رغم الصعوبات، يرى يمين أن العمل كطبيب مهرّج مريح له، لأنّ طبيعته إنسانية، مشيراً إلى أنّ زيارة المستشفى تغير منظوره إلى الحياة وتساعده في التعامل مع المشاكل على نحو أفضل.
أما بالنسبة إلى ماريليز عاد، فلا تستطيع الفصل أحياناً بين ما تراه في عملها من مآس وبين حياتها الشخصية. تأخذ معها بعض الحالات المؤلمة الى المنزل، وتخبرنا عن لقائها مصادفة بوالدة طفل بعدما توفي. ركضت الأم صوبها لتغمرها بسعادة.
أطباء مهرجون يبعثون الأمل في أرواح سجنتها أجساد متعبة وهزيلة، يخرجون من ضجة الحياة العملية وأنانية الإنسان كي يلتقوا بأطفال منسيين غائبين عن المدارس وعن حلقات اللعب، علهم يعيدون اليهم بهجة الطفولة من جديد. يشدّدون على أنّهم لا يقومون بعمل خيري. تختم ماريليز عاد «نستطيع أن نرسم صورة البطولة لأنفسنا، لكنّ الأبطال الحقيقيين هم الأطفال. نتعامل معهم مرة واحدة في الأسبوع، لكن أهلهم يقومون بالاهتمام بهم يومياً. كذلك فإن الممرضات والأطباء هم الذين يعالجونهم. إنّهم هم الأبطال.»



«ابتسامة» تعتمد على التبرّعات الفردية لا الشركات ـــ www.ibtissama.org