قبل أربع سنوات، غادرتنا الفنانة آماليا أبي صالح (1946ـــــ 2014)، من دون أن تتمكن من تحقيق أمنيتها بتسجيل ابنتها بالتبني «جيسيكا» على خانة عائلتها. نضال انخرطت فيه على مدى سنوات فاقت الخمسين عاماً، عندما كانت الطفلة السمراء لا تتخطى الثلاث سنوات بعد. يومها، تبنتها الممثلة اللبنانية إثر وفاة والديها في حادث طيران مؤلم في قبرص، وظلت حتى سنواتها الأخيرة تناضل من أجل وضع جيسيكا على اسمها، قبل أن تعجز عن الحركة بعدما غلبها المرض. قصة جيسيكا التي أثارها أخيراً شقيقها الصحافي ربيع دمج، تبلغ قسوتها الذروة من انعدام الإنسانية والرأفة تجاه امرأة عاشت وما زالت من دون أوراق ثبوتية (مع أنها ولدت في لبنان)، ولا كنية، كأنّ لا وجود رسمياً لها. صحيح أن القصة عمرها سنوات، لكن العوائق التي تزنر حياة المرأة السمراء، ما زالت حاضرة وبقوة. القصة يعود تاريخها إلى منتصف الستينيات، قبل أن تقترن أبي صالح بزوجها محمد دمج، عندما فقدت «جيسيكا» أوراقها الثبوتية التي كانت بحوزة والدتها، إذ احترقت خلال الحادث الذي تعرّضت له مع زوجها.
جيسيكا شاركت في مسلسل «المعلّمة والأستاذ»

الأم الجامايكية، التي كانت تعمل كمدّرسة في «الجامعة الأميركية في بيروت»، لم تكن بلادها تملك قنصلية أو سفارة هنا، بسبب الاستعمار البريطاني لبلادها، فكان التوجه يتم عبر السفارة البريطانية لتخليص المعاملات. بعد وفاة الوالدين، قررت آماليا أبي صالح تبنيها، لشدة وفائها لأمها أي صديقتها المقرّبة. عندما تزوجت بدمج زواجاً مختلطاً، حاول الأخير وضعها على خانة عائلته لكنه لم يستطع، بسبب انتمائه الى الديانة الإسلامية. لكنّ أبي صالح استطاعت استثمار شهرتها في التمثيل والظهور التلفزيوني، وتقنع مدرسة «غران ليسيه» وقتها بتسجيل جيسيكا هناك من دون أوراق ثبوتية، إلى أن أتت الحرب الأهلية. بعدها، بدأت «بدور» بقرع كل الأبواب، وزارت الرئيس الأسبق الراحل الياس الهراوي، والسابق أيضاً اميل لحود الذي قال لها آنذاك بأن الأمر يحتاج إلى قرار من رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة. وبسبب المناكفة والكيدية بين الطرفين، عادت أبي صالح خائبة من جديد، إلى حين دخول لبنان فترة الفراغ الرئاسي، ومجيء ميشال سليمان رئيساً للجمهورية (2008)، ودخولها في دوامة المرض والعجز. لم تكن جيسيكا أبداً بعيدة عن الأضواء بدورها، فقد عرفها الجمهور في بداية الثمانينات في مسلسل «المعلمة والأستاذ» (سيناريو وحوار : إبراهيم مرعشلي) لدى مشاركتها إلى جانب والدتها بالتبني، إلى جانب مشاركتها في أعمال وعروض مسرحية للأطفال، وكانت لها لاحقاً سلسلة إطلالات إعلامية إلى جانب نجوم معروفين.
قررت الممثلة اللبنانية تبني جيسيكا بعد وفاة صديقتها المقربّة


قصة «جيسكيا غرينتش» كما يشي اسمها بريطانياً (جراء الاستعمار البريطاني لبلادها)، مهدورة الحقوق اليوم، ولا تستطع حتى دخول مستشفى إن مرضت. هنا يروي شقيقها ربيع لنا كيف يستعيض عن غياب أوراقها الشخصية باستثمار علاقته بشخصيات ذات علاقة مباشرة بالقطاع الصحي كي يدخل شقيقته بالتبني المستشفى للعلاج. أيضاً، هي محرومة من حق الزواج لفقدانها هذه الأوراق، بل إنّها لن تستطيع الحصول على قبر ـ إذا توفيت ـ بسبب اللغط الحاصل حول ديانتها الإسلامية والمسيحية! إنّها مأساة بالفعل، وبالتأكيد تخص آلاف الأشخاص مكتومي القيد في لبنان، إلى جانب جيسيكا، الذين يفتقدون إلى أدنى معايير العيش والحقوق المكتسبة كمواطنين في هذا البلد الذي ولدوا فيه. وآخر فصول هذه القضية وفق ما يقول لنا ربيع دمج أنّ الأمن العام رفض التجديد لها (تُعامل جيسيكا كما سائر اللاجئين الفلسطينيين في لبنان) من دون سبب، وهذا أمر إضافي يزيد على كاهل مأساتها مأساة أخرى!