منذ أن أطلق ألبومه الأخير «مدن لامرئية» (2017)، يُكثر توفيق فروخ من إطلالاته في حفلات موسيقية بيروتية سواء كانت ضمن مهرجانات خاصة بالجاز أو أمسيات منفردة نراه يقدمها في مختلف الأماكن. قلة هم عازفو الساكسوفون اللبنانيون الذين استطاعوا مثل فروخ فرض أنفسهم وموهبتهم على هذه الآلة عزفاً وتأليفاً. بدأ هاوياً شغوفاً بالساكسوفون عندما كان لا يزال طفلاً، وراح ينمي موهبته حتى تمكن من صقلها بفضل منحة إكمال دراسات جدية في المجال في باريس، خصوصاً أنّ آلته والجاز بشكل عام لم يشكلا آنذاك، أي في ثمانينيات القرن المنصرم، جزءاً حيوياً من الساحة الموسيقية اللبنانية. ولكنه ظل ناشطاً على صعيد بلاده وحافَظ على تعاوناته مع عدد من الفنانين على غرار زياد الرحباني ومرسيل خليفة. ونتيجة لذلك، اكتسب فروخ ثقافة موسيقية هي خليط من مختلف الأنماط والثقافات التي تنقل بينها منذ انطلاق مسيرته. في مؤلفاته هذا المزيج واضح، يكوّن نوعاً ما هويته الموسيقية. إلا أن العازف والمؤلف يتهرب من محاولات التصنيف والبحث عن هوية ثابتة في الموسيقى. يضع موهبته العزفية على آلة النفخ النحاسية في خدمة العمل الذي يؤلفه، متجنباً فكرة التباهي بالبراعة العزفية من أجل إظهار مهارات معينة أو التخلي عن تكامل المقطوعة من ناحية تناغم الآلات. كما يبتعد عن فكرة إملاء مشاعر ما على المستمع، مستبدلاً إياه بفكرة الحركة المستمرة في الموسيقى والفن، ومركزاً على أن الفن هو خلق أحاسيس فكرية وجسدية. تؤدي الصورة دوراً بارزاً في موسيقاه أيضاً. ففروخ معروف كذلك في المجال السينمائي، وصاحب موسيقى عدد من الأفلام اللبنانية التي كان جمعها عام 2012 في ألبوم «سينما بيروت».
في «كنيسة مار يوسف»، يقدّم مقطوعة جديدة بعنوان «على حدود الأشياء»

يعطي فروخ الجمهور اللبناني مجدداً موعداً اليوم وغداً في «مترو المدينة» لأمسيتين ضمن رباعي الجاز (لياندرو اكونشا/ بيانو ـ مارك بورونفوس/ دابل بايس- أرنو بيسكاي/ درامز- وفروخ على الساكسوفون). أعد الموسيقي للمناسبة برنامجاً يضم مؤلفات ألبومه الأخير «مدن لا مرئية»، إضافة الى مقطوعات جديدة. ويستعد فروخ أيضاً مساء الجمعة المقبل للمشاركة في إحدى أمسيات الاوركسترا الفلهارمونية الوطنية في «كنيسة مار يوسف» في مونو من أجل الكشف عن مقطوعة جديدة بعنوان «على حدود الأشياء» التي ألّفها أخيراً ويقدّمها للمرة الأولى. علماً أنها عبارة عن متتالية رباعي جاز (بالتركيبة المذكورة أعلاه) بأوركسترا كلاسيكية.
أمسية المدينة إذاً ستكون حافلة بمقطوعات من ألبومه الأخير الذي لا يزال يجول فيه ويقدّمه في كافة حفلاته في الخارج وفي لبنان. هو عبارة عن 13 مقطوعة تدعو كما اسمها (الذي يتشارك والرواية إياه) إلى السفر واسكتشاف عوالم أخرى خفية. المدن موزعة حسب مواضيعها المختلفة، ويقول فروخ إنه جُذب خصوصاً إلى «المدن والذاكرة» و«المدن والرغبة» و«المدن والأموات». تتعدد مصادر الإلهام الموسيقي عند الفنان الذي قد يرى في أي شيء دافعاً كافياً يحثه للتعبير عما يرغب فيه مؤكداً: «الأهم هو أن تتمتع القطع بروح ومشاعر». أما ألبومه الأخير فوصفه الفنان بأنه سعي للوصول إلى «حقيقة عارية وسرية للمدينة والحياة اللتين اجتمعتا أخيراً وتداخلتا. والنتيجة كانت مجموعة نابضة من الأصوات والمشاعر». يتخيّل مدناً يعيش فيها سكانها رجالاً ونساءً بتناغم تام وسلام. يتساءل دوماً عن مفهوم الانتماء وما إذا كانت الموسيقى تعرِّف عن مجتمع ما، ووسيلة لتأكيد الانتماء إلى مجموعة فنية أو ثقافية ما.

* رباعي توفيق فروخ: 21:00 مساء اليوم والغد ـــ «مترو المدينة» (الحمرا) ـ للحجز: 01/753021