«لقد آن الصبوح فقُم حبيبي... وهاتِ الراحَ واشرَع بالغناءِفكم جَمشيدَ أردى أو قُباد... مَجيء الصيفِ أو مَرّ الشتاء»
(من «رباعيات الخيام» ـــ ترجمة أحمد الصافي النجفي)


أن تشرب نخب الإله بعد عصر العنب معه، ثم أن تقدم التجربة معرضاً للرائين... ذاك بعضٌ من رسالة ريم الجندي (1965) إلى صديقها الإله باخوس. لوحات تؤيقن الكرمة الباقية لا الأنخاب اللحظوية. تروي قصة تاريخ حضاري وثقافي وميتولوجيّ باقٍ ومتجدد، بحبكة تأليفية متينة ولونية ناضجة وضربة ريشة ماكنة. لا يشغلها الشغف عن عقلها، بل تعقل كل ثمالة لتُطرب المشاهد من مخزون ذاتي، شفافٍ وصادقٍ حتى الثمالة.
«شي أندريه» ( مواد مختلفة على كانفاس - 90 × 120 سنتم ـــ 2017)

«صديقي باخوس» معرضٌ للفنانة ريم الجندي في «دار المصور»، يمتد على مساحة قاعتين، حيث عُلقت عشرات الأعمال باكتظاظ لا يتيح للمشاهد الراحة، فطرب العين إلزاميّ، وكذا طرب الروح، مع كل رواية تقصها لوحات الجندي فُراداً بحميمية عليك، مشاهداً، متفاعلاً.. منغسماً! هنا عصارة تجربة الفنانة التشكيلية عبر عقود من الرسم والعرض والتطوير والتحديث والتأثُّر والعطاء. فالفنانة ذات المشاركات العالمية، التي لم تتوقف عاماً عن العرض والإنتاج، تصب اليوم عصارة تقنياتها المكتسبة في عشرات الأعمال دفعة واحدة. كأنك ترى كل معارض ريم الجندي في معرض واحد. بين مرحلة الأبيض والأسود ومرحلة الأيقنة ومرحلة المواد المختلفة الممزوجة على الخشب أو على القماش، إلى التأليفات المركبة مع طيف طائرة هنا، أو ملاك صغير هناك. كلها بضربات ريشة تتأرجح بين التعبيرية والواقعية المؤسلبة، حيث يظهر جليّاً تأثر الجندي بدراستها لفن الأيقونات. فاللون الذهبي حاضر بكل جرأة، بل حاضر كهالةٍ حول قنينةٍ فيها عصارة التاريخ تروي ريم عبرها قصصاً ذاتية. لكن مهلاً، أليس الذاتيُّ في بعض الأوقات مشتركاً؟! تلك بيروت ذاتها، حاناتٌ أوت قلوباً مرتجفة، باحثة عن أمانٍ لم يصلها من الآلهة، إلا عبر سلالة باخوس إله الزرع والحصاد والخمر. وريم، الفتاة الصغيرة كَبُرت على قدسية صديقها باخوس في «موائد الأحد البيتية البطيئة الهانئة»، فأخذ بيدِها وعبَر بها كل شيء على ما تقول في بيانها الفني، وتضيف: «كان عليّ انتظار سنوات عديدة ليصير له أيضاً وجه المخلص. حصل ذلك حين صرت شابة أعيش في بيروت وحربها.

«في ظل باخوس» (مواد مختلفة على كانفاس - 70 × 120 سنتم ــــ 2016)

كان الرعب هائلاً، لكن باخوس ساحر المتع وجد الحل. قادني إلى الزوايا الصغيرة في شوارع المدينة حيث يجلس الأصدقاء والغرباء على البار يشربون كؤوسهم ولا يعودون خائفين من الموت». لكن المفارقة أن ريم ذاتها لا يمكن أن ترسم إلا بوعيٍّ تام. فالألوهة وباخوس والطلّ لوقت الصداقات، ومساءات السّمر. أمّا الإنتاج الفنّي فتركيب ذهنيٌّ يَقِظ، يتخلَّله في لحظاتٍ محددة بعض العفوية الناتجة عن التمكُّن المُكتسب -عبر عقودٍ من العمل- من التلوين الماهر. «لا يمكن أن أرسم إلا بكامل وعيي، فبناء اللوحة عمل ذهني وهندسة دقيقة، وفي الفعل ذاته لذة فائقة ومتعة صرف. حتى قبل ولادة العمل مجرد الوصول إلى الحل البصري الذي أبحث عنه أكون في حالة نشوة خالصة» بحسب ما تُسرُّ ريم لـ «الأخبار»، ثم نحاول معها المقارنة بين متعة الخمر ومتعة التلوين والخلق الفنيّ، فسمات الفرح مشتركةٌ، لكن نكهة المشاركة تختلف عن نكهة الاكتشاف.
ضربات ريشة تتأرجح بين التعبيرية والواقعية المؤسلبة، تظهر تأثر الفنانة بدراستها فنّ الأيقونات

فباخوس للمزج والمشاركة، فيما الرسم نشوة فردية فردانية، نتوزّع نتاجها كحصاد الموسم، لا كاعتصار الكرم. ويبقى المشترك احتفالية الاثنين منذ فجر التاريخ. تروي لوحات ريم قصصاً أشبه بلحظات، فيها شخصها، وأصدقاؤها وحتى ابنها. وباخوسها حاضر لا شك، لكن لا كمخلص، ولا كمنقذٍ ولا كإله: «لم أعد أحتاج لباخوس كي يخلصني. هو فقط صديقي. نتشارك معاً اللهو والضحك والسهر مع الساهرين، ليعود فيرافقني سيراً على الأقدام إلى البيت آخر الليل». صداقة قد تكون من بركات هذا المقدّس، تثمر في مختلف أعمال ريم وجوهاً أليفة تتسامر، يرافقها طيف صديق على زجاجة ذات هالة، أو جيش من ملائكة الأقداح، فرغت لتزرع البسمة بين الأصدقاء. قصص قصيرة، بفعل زمنيّ مُعتَّق. ليست لمن تنسَّك، ولا لمن تعبّد غير آلهة الأقدمين. تذكّر بأبي النواس صادحاً: «دع المساجد للعباد تسكنها... وطف بنا حول خمّار ليسقينا، ما قال ربُّك ويلٌ للذين سكِروا... ولكن قال ويلٌ للمـُصلّينا».

* «صديقي باخوس» لريم الجندي: حتى اليوم ــ «دار المصور» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/373347