انطفأ أول من أمس واحد من أعلام الإعلام في مصر والعالم العربي، حمدي قنديل، عن عمرٍ يناهز 82 عاماً، بعد صراع مع مرض الفشل الكلوي. دخل قنديل العمل الإعلامي منذ خمسينيات القرن الماضي (تحديداً عام 1951) وهو لما يزال طالباً جامعياً، وكانت بداياته «الرسمية» في مجلة «آخر ساعة» بناء على طلب الصحافي الشهير مصطفى أمين. عمل مطولاً في السياسة ودمجها في عمله الإعلامي، فأوقفت برامجه مراتٍ عدّة: إذ أوقف برنامجه الأوّل «رئيس التحرير» الذي كان يعرض محلياً في مصر (على التلفزيون المصري ثم على قناة «دريم» المصرية) في عام 2003 بعد هجومه الشديد على الدول العربية (بعد أحداث الانتفاضة الفلسطينية عام 2000). انتقل بعدها إلى الإمارات واستقر في برنامجه الجديد «قلم رصاص» الذي عرض على قناة «دبي» (وقناة الليبية الفضائية). لكن سرعان ما أغضب الحكومات العربية من جديد، ما أدى إلى إيقافه (بعد خمس سنوات من بدايته). بعد أحداث 25 يناير في مصر (عام 2011). أصبح قنديل الناطق الرسمي باسم «الجمعية الوطنية للتغيير» التي أسّسها محمد البرادعي.
«أظن مافيش حاجة تحبط أد المقارنة المؤسفة، بين مناضل ضد إسرائيل حسن نصرالله، نلاقيه كامن في مخبئه، طالعة في أخبار إن إسرائيل حاولت تغتاله بالسم على طريقة ياسر عرفات، الناس مش قادرة تطمن عليه. المناضل ضد إسرائيل في مخبأ والقاتل بحكم محكمة سمير جعجع كل يوم على شاشات التلفزيون بيضرب تصريح بمعدل تصريح كل ساعة، بيستقبل في قصور الرئاسة العربية. أه يا أمة جاحدة، يا أمة ناكرة، يا أمة ذليلة، يا أمة وهانة، يا أمة تلفانة، يا أمة عدمانة، يا أمة أونطة، يا أمة كل اللي شاغلك مسلسل هشام وسوزان، بعد مسلسل تامر وشوقية، يا أمة كانت أمة محمد بقينا أمة مهند». قد لا يذكر كثيرون من الأجيال الجديدة من الراحل الكبير حمدي قنديل سوى هذه الجمل القصيرة الخاطفة والغاضبة التي أطلقها في حلقته الأخيرة من برنامجه «قلم رصاص» الذي تم إيقافه بضغطٍ من الحكومتين المصرية والإماراتية آنذاك. وقتها، انتشر الفيديو كالنار في الهشيم، كان المجتمع العربي ينتظر وبلهفةٍ كلاماً مثل هذا، كلاماً خارجاً عن السياق المعتاد للتطبيل الإعلامي العربي المعتاد، خصوصاً أن المقاومة في لبنان كانت تتعرض لحملاتٍ من التخوين والتشويه، فكان صوت قنديل منارةً احتاجتها المقاومة بشدة. كان قنديل رائداً في تقديم برامج «الرأي». إذ كان برنامجه «قلم رصاص» (وقبله برنامج «رئيس التحرير») واحداً من البرامج العربية الأولى التي قاربت هذه النماذج الغربية، فكان يحكي خبراً سياسياً أو اجتماعياً ويعلّق عليه بمنطق واضح ويأخذ طرفاً سياسياً فيه، وقد كلّفه الأمر «طرده» و«إغلاق» برامجه غير مرة.
دافع عن المقاومة وأثار غضب الأنظمة العربية ببرنامجه «قلم رصاص»


ولد قنديل في محافظة المنوفية عام 1936، وتحديداً في قرية كفر عليم، ودرس في مدرسة طنطا الثانوية الجديدة، إذ كان والده يعمل مدرّساً للغة العربية في مدرسة طنطا للفتيات. كان من بين زملائه في الدراسة الصحافي المعروف جمال بدوي ومرشح الرئاسة وزير خارجية مصر الأسبق ورئيس جامعة الدول العربية عمرو موسى. اختار قنديل دراسة الطب بعد تخرّجه من المدرسة تحت إلحاح الأهل «إذ كانوا يمنون النفس بمناداة ابنهم يا دكتور» (هو أعاد الثانوية العامة مرتين، إذ حصل في المرة الأولى على 60 في المئة، وهو أمر لم يخوله دخول كلية الطب، ليعود ويعيدها ويحصل على المعدّل المطلوب). درس الطب لثلاث سنوات، لكنه هجره ليدخل عالم الصحافة المبهر وأضواءه، حيث لم يجد نفسه في الطب. كان قنديل مشاكساً منذ البدايات. يروي في مذكراته «عشتُ مرتين» (صدر عن «دار الشروق» عام 2014)، أنه تسبب في إغلاق صحيفة «الإخلاص» (وهي صحيفة محلية تصدر في طنطا) واعتقال صاحبها (محمد عبدالسلام شتا) وهو لا يزال تلميذاً في الثانوية؛ ذلك أنّه كتب مقالاً ضد «يخت الملك فاروق» آنذاك، ونشره في الجريدة من دون علم صاحبها، وكان ما كان.
لاحقاً، عمل في مجلة «آخر ساعة» وصحيفة «أخبار اليوم». وسرعان ما عشق التلفزيون، ودخل عالمه، فقدم «أقوال الصحف» و«رئيس التحرير»، وأخيراً «قلم رصاص». تولى قنديل مناصب رئيسية ومهمة عدة، فترأس «اتحاد إذاعات الدول العربية»، وكان مديراً للإعلام في منظمة اليونسكو.



تزوج قنديل ثلاث مرات، آخرها (عام 1995) من النجمة نجلاء فتحي الذي دام حتى لحظات وفاته. تعرّف إليها عام 1991، وقد كشف لأكثر من وسيلة إعلامية (كما في مذكراته) أنه أحبها بشدة، فضلاً عن أن العلاقة بينهما ظلت قوية حتى اللحظة الأخيرة. وأشار بفرح شديد إلى أنها هي التي طلبت منه الزواج، فكانت ردة فعله كطفلٍ مبتهج: «عظيم عظيم». كما أنه كان مبهوراً بأنها «شخصٌ عادي» وأنها كانت دائماً «فاطمة الزهراء» (اسمها الحقيقي) لا نجلاء فتحي النجمة الشهيرة والمعروفة. لم ينجب قنديل (ولا إخوته للمفارقة) أطفالاً، فيما أنجبت شقيقاته الفتيات ذكوراً وإناثاً. يذكر أن قنديل كان قد فاز بجائزة «شخصية العام الإعلامية» (2013) التي تمنحها جائزة الصحافة العربية.
جرأةُ قنديل وشجاعته في قول الحقيقة كلّفتاه الكثير، ولا ريب أن أبرزها غيابه شبه الكامل عن المشهد الإعلامي العربي خلال العقد الأخير من الزمن. لم تتبن «برنامجه» أيٌ من القنوات العربية (وحتى الغربية) على كثرتها.
إذ كان كثيرون يخافون قوة كلماته وشجاعته في الوقوف بوجه الظلم. عانى قنديل من مشاكل صحية كثيرة في السنوات الأخيرة، من الجلطة إلى الكسر في الفخذ، مما أقعده طويلاً، فضلاً عن مشاكله المزمنة مع الكلى.