إنّه وجه مصر المضيء. وجه الاعلام العربي المشرّف. وجه العروبة البهيّ. هذا الوجه الذي نتشبث به اليوم كأيقونة، في زمن الخيانات الكبرى. نعلقه في رقابنا، أو نزرعه في ضمائرنا، كطوطم، في زمن الانحطاط العظيم الذي حوّل الصحافيّين إلى كتبة «ليبراليين»، و«الاعلاميين» إلى مهرّجين بائسين مهمّتهم الترويج للانحطاط، وتزوير الصراع، و«تعبئة الهواء»، ورفع نسب المشاهدة، واختطاف الوعي، وتخدير الضمائر. لذا سنبقى نستنجد به وسط هذا الليل العربي الدامس الذي حوّل مناضلي أيّام زمان إلى «ناشطين» مدفوعي الأجر مربوطين إلى معالفهم الاستعماريّة، يسرحون في اصطبل فاعلي الخير، ورسل «الحريّة والسلام وحقوق الانسان»، من منظمات «غير حكومية» و… «حكومية».إعلاميّو الزمن الرديء باتوا شهود زور على المجزرة، خدماً على أبواب الأنظمة المارقة ومصاصي الدماء. فوقهم ينتصب حمدي قنديل كالباشق، بقامته المديدة. يرخي ظلّه الطويل على جيش من الديدان الزاحفة. وحده يقف الآن في جنازته. بأناقته البريتيش، بشاربين هاربين من الزمن السعيد، بالمنديل الأحمر الذي غالباً ما ينبثق من جيب سترته لجهة القلب. ها هو يرمقنا بغضبه الأرستقراطي الشهير. يستلّ «قلمه الرصاص» في معركة دونكيشوتيّة أخيرة، ضد عبيد أميركا، وغوييم «إسرائيل». لقد وقّت جنازته في هذه اللحظة الفظيعة التي تشهد سقوط الأقنعة، واحداً تلو الآخر، عن عربان الانحطاط والمال السائب والتخلف والخيانة. الأعاريب اشتروا «العالم المتحضّر» برمته، سياسيين واعلاميين واقتصاديين وحقوقيين وخبراء، بمال ليس لهم، وباعوا فلسطين التي ليست لهم، مراراً وتكراراً. لكنّهم لم يتمكّنوا من شراء حمدي قنديل. في عقر دارهم مدّ اصبعه الوسطى لبني جهل، وتحدّى أميركا، وقزّع هذه الأمّة المنهارة التي باتت «أمّة مهنّد». من على شاشاتهم خاطب الضمير العربي، شاهداً للحق في زمن المزورين والمنتحلين، لا تحرّكه أي عصبيّة مذهبيّة أو طائفيّة أو عرقيّة. كان صوت الانسان العربي كما نراه في رسومات ناجي العلي، بثيابه المرقّعة وقبضته المرفوعة، وقد أعياه القهر، وهدّته الهزيمة، ولمّا يفارقه الغضب.
كلامه يطنّ الآن في ضمائرنا المستنفرة: «النهار ده باعلنها (…) بأعلى صوت: لو كانت المقاومة إرهاباً، لو كان حزب الله إرهابياً، لو كان حسن نصر الله إرهابياً، فاعتبروني اني من النهار ده إرهابي. واحد من مئات الملايين في العالم بحرض على الارهاب، واحد من مئات الملايين الملايين بشارك وحشارك في الارهاب، واحد من مئات الملايين الملايين أمريكا بالنسبة لي لا حليف ولا وسيط ولا شريك…». كاتب الافتتاحيات التلفزيونيّة المجلجلة، أدلى بشهادته ولم يكن ترامب قد تصدّر المشهد، ذلك أنّ مسخ البيت الأبيض ـــ على فظاعته ـــ ليس أبشع وجوه أميركا. أدلى حمدي قنديل بشهادته، قبل زمن «العقوبات»، هذا الارهاب الجديد الذي يعكس وقاحة المستعمر، وغطرسة الرجل الابيض! لم تتغيّر صورة الكاوبوي الأميركي الذي كلّف نفسه «رسالة سامية» هي مكافحة «الأوباش» «الارهابيين»، بعدما ذبحهم وأخذ أرضهم، وسرق روحهم. «ليسوا لا اصدقاء ولا شركاء ـــ يقول حمدي ـــ لا أحبّهم، ولا أعترف بنفوذهم».
حمدي قنديل الذي «عاش مرّتين» حسب عنوان مذكراته الصادرة في القاهرة، ابن تلك المدرسة القديمة، قلباً وقالباً، في الأسلوب والمبادئ. في أيّامه كان الأسلوب هو الشخص، واللغة سلاحاً، والكلمة أمضى من السيف. كانت مهمّة الصحافي أن يشهد للحق، ولو على حساب راحته واستقراره وأمنه. وإلا من أين تظنّون أنّه استمدّ كل تلك الشجاعة وكل تلك النزاهة؟ ما الذي جعله صلباً في قناعاته، واثقاً من مواقفه المبحرة عكس تيّار الخطاب الرسمي للنظام العالمي وللنظام العربي الذي زاده الربيع الأجوف انحطاطاً ودمويّة واستسلاماً؟ وإلا ما الذي جعله يرى في حسن نصر الله «فارساً في زمن الانكسار»، بطل المرحلة، وزعيم العروبة، وقائدنا الى النصر الأكيد؟ المحطات التلفزيونيّة التي لمع نجمه فيها، من «رئيس التحرير» إلى «قلم رصاص»، غادرها «مطروداً» للأسباب السياسية عينها. لعلّه أكثر اعلامي عربي «ممنوع من العرض»! لكنّه لم يرتدع: لقد بقيت عيناه، من خلال الكاميرا، شاخصتين إلى فلسطين. وقلبه ينبض على ايقاع العروبة.
حمدي قنديل ابن التجربة الناصريّة التي ظلّ وفيّاً لها: «إذا كان الحنين إلى زمن عبد الناصر مرضاً، فأتمنى ألا أشفى منه». إنّه وجه مصر المضيء الذي تحاول المرحلة طمسه، أو تحويله. مصر النهضة والثقافة والعقلانية والعروبة والتنوير. مصر شبلي شميّل وعبد الله النديم وجمال عبد الناصر. الشرفاء الذين مشوا في جنازته، هم بحجم مصر وعظمتها. ومشى معهم «ملايين العرب» الذين كان يستحضرهم في مونولوجاته الناريّة. ونحن من بيروت نمد يدنا إلى النعش. نلمسه لنتبرّك، لنستمدّ منه طاقة وقوّة وصبراً وعزيمة. لا بد لنا من المضي على الطريق نفسها، لا بد من مواصلة معركتنا الحاسمة ضد الهيمنة، وضد الخيانة. لا بد لنا، نحن الصحافيين، من أن نحمي بقية الروح، لئلا تباع كلماتنا وأسماؤنا في سوق النخاسة. مثل حمدي قنديل، علينا أن نكتب سيرة شعوبنا بحبر لم يخالطه نفط الانحطاط. مثلك، علينا أن نجاهد كي نستحق موتنا!