انتشر اعتقاد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، في المنطقة العربية وفي العالم، أن أحد تداعياته المباشرة سيكون تراجع أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. استند هذا الاعتقاد إلى فرضية أن التحالف الأميركي-الإسرائيلي ارتبط بسياق الحرب الباردة، وكان جزءاً من منظومة التحالفات التي نسجتها الولايات المتحدة على المستوى الدولي، لمواجهة الاتحاد السوفياتي وحلفائه، وبينهم التيار القومي العربي الصاعد بقيادة مصر الناصرية. وأتت حرب تدمير العراق الأولى، بحجة تحرير الكويت، في بداية عام 1991، ومن ثم رعاية الولايات المتحدة لعملية السلام المزعومة التي انطلقت مع مؤتمر مدريد في نهاية العام نفسه، لترسخ الاعتقاد المذكور. ورأى بعضهم في الضغط الذي مارسته إدارة جورج بوش الأب على حكومة إسحاق شامير لإجبارها على حضور المؤتمر، مؤشراً إلى بداية تحول في السياسة الأميركية حيال إسرائيل وعزم على إلزامها بتطبيق القرارات الدولية التي تنص على انسحاب قواتها من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، خاصة القرارين 242 و 338، والتي شكلت أساساً «لمبدأ مدريد» وهو الأرض مقابل السلام. أدرج هذا التحول في سياق سياسة أميركية جديدة تقوم على ضرورة ترسيخ الاستقرار في الشرق الأوسط عن طريق تسوية الصراع العربي-الصهيوني برعاية الولايات المتحدة لتثبيت هيمنتها على المنطقة. لكن جميع التطورات اللاحقة، خاصة تلك المتصلة «بالرعاية» الأميركية للعملية التفاوضية، أثبتت استمرار ــ بل وحتى تعاظم ــ الانحياز الأميركي لإسرائيل، من إدارة بيل كلنتون إلى إدارة دونالد ترامب. لقد ظهر بوضوح أن التحالف الاستراتيجي قد انتقل إلى مرتبة العلاقة العضوية بين البلدين لأسباب عدة أبرزها التماهي الثقافي-الأيديولوجي بين نخبهما الحاكمة، في ظل وضع دولي وعربي جعل الإجهار بالتماهي ممكناً.
وليد ادريس ـــ 2017

كتابان صدرا خلال التسعينات رصدا بدقة التحول الذي طرأ على العلاقات الأميركية-الإسرائيلية وهما «البعد الديني في السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي-الصهيوني» للدكتور يوسف الحسن و«أكثر من تحالف» للدكتور كميل منصور. أدى التحالف الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي المديد والصلات الوثيقة والحميمة بين النخب السياسية والعسكرية في البلدين وسطوة النموذج الأميركي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي عالمياً في الحقبة التي تلت نهاية الحرب الباردة وتسارع عملية العولمة النيوليبرالية، إلى ابتعاد إسرائيل عن النماذج الأوروبية التي كانت مرجعاً «لآبائها المؤسسين» ودخولها في مسار «أمركة» شاملة. ضاعف من قوة هذا المسار صعود الدور السياسي لنخب أميركية الثقافة والهوى، كبنيامين نتنياهو وعدد من قيادات اليمين، في «إسرائيل»، الذين درسوا في الولايات المتحدة وتأثروا برؤى وأطروحات اليمين الأميركي المحافظ. شهدت الولايات في الفترة نفسها وبشكل مواز، منذ انتخاب بيل كلينتون تحديداً، وصول نخب أميركية إلى موقع القرار تعتبر ــ لأسباب أيديولوجية-ثقافية ودينية ـــ أن إسرائيل هي امتداد وتكرار للتجربة التاريخية الأميركية. عودة سريعة لتصريحات كلينتون وبوش الابن وترامب ونائبه تظهر العاطفة الجياشة، المشحونة بمضامين دينية، تجاه إسرائيل تقطع الشك باليقين. لم نعد أمام تحالف استراتيجي يستند إلى مصالح حيوية مشتركة كما هو الحال بين الولايات المتحدة والسعودية مثلاً. التماهي الثقافي-الأيديولوجي يدفع إلى إعادة تعريف للعلاقة باعتبارها ذات طبيعة عضوية وللمصالح باعتبارها متطابقة. وقد وصل التطابق في تعريف المصالح وفي المواقف السياسية المعلنة إلى درجة غير مسبوقة مع إدارة ترامب.
حول «صفقة القرن والانحياز الأميركي الفاضح لإسرائيل»، نظمت في «الجامعة الأميركية في بيروت» ندوة بمبادرة من «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» و«مبادرة المساحة المشتركة لتبادل المعرفة وبناء التوافق» و«معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية». اللافت في أغلب مداخلات المشاركين في الندوة، عند تحليلهم لخلفيات ومآلات الانحياز الأميركي لإسرائيل، هو إشارتهم بصراحة وبلا التباس إلى المسؤولية العربية وخاصة الخليجية في تمادي هذا الانحياز ووصوله إلى درجة التطابق الكامل بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي. الدكتور طارق متري، مدير المعهد ورئيس مجلس أمناء المؤسسة، أكد أن المطلوب اليوم هو التفكير واستجماع الطاقات لتجديد مشروع الاستقلال الوطني الفلسطيني، لأن عملية التسوية انتهت وانتهى معها حل الدولتين. وقال متري إن الحديث عن «صفقة قرن» ما كان ممكناً لولا ضلوع عدد من الأنظمة العربية في هذا المخطط. تحولات عدة أسهمت في خلق الظروف المؤاتية لمثل هذا المخطط أهمها سقوط النظام الإقليمي العربي وهشاشة الأنظمة السياسية في المنطقة وعجز المواطنين عن الدفاع عن قضاياهم السياسية والاجتماعية نتيجة الاستبداد وتعاظم الانقسامات العامودية داخل المجتمعات العربية. هذه الأعطاب البنيوية أفضت إلى تراجع أولوية قضية فلسطين على جدول الأعمال السياسي. عامل آخر يساعد على فهم المآل الحالي هو أن الأنظمة العربية أصبحت مهجوسة بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وتسعى بجميع السبل لتعزيزها. وبعدما جزم بأن الاعتبارات التي تحكم سياسة ترامب تجاه إسرائيل هي أولاً داخلية تهدف لإرضاء قاعدته الانتخابية التي يشكل أنصار التيارات الإنجيلية اليمينية قطاعاً رئيسياً فيها، أوضح أن هذا الأخير بنى هذه السياسة على أنقاض سياسة أوباما الذي أحجم عن تنفيذ الوعود المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي قطعها في خطابه الشهير في القاهرة، وبالتالي سهّل موضوعياً المهمة لترامب. ويلعب الخوف من إيران ـ حسب متري ـ دوراً محورياً في دفع دول الخليج إلى اعتبار قضية فلسطين «غير ملحة» وفقاً للتعبير الذي ابتكره كيسنجر للإشارة إلى القضايا التي يمكن تجاهلها عملياً. وذكّر بإحدى زيارات أوباما للسعودية التي توقع فيها الرئيس الأميركي أن يتخلل لقاءه مع العاهل السعودي، حوارٌ حول الوضع في فلسطين. لكن جل ما سمعه هو شكوى من إيران وتهديداتها. وشدد متري على أن الولايات المتحدة أضحت أكثر انكفاءً عن منطقتنا مما كانت عليه في العقود الماضية وأنها لم تعد تنظر لها إلا من زاوية عقود السلاح ومكافحة الإرهاب وأن انحيازها لإسرائيل لم يعد خاضعاً للحسابات القديمة مثل أهميتها الاستراتيجية، معتبراً أن ملامح صفقة القرن باتت واضحة لكن شروط إعلانها لم تكتمل.
جورج جقمان، أستاذ الفلسفة في «جامعة بيرزيت»، لفت إلى أن الهدف الأول للصفقة هو تثبيت الأمر الواقع الحالي لمصلحة إسرائيل، بمعنى إطلاق مفاوضات وفقاً للشروط الإسرائيلية تتيح استمرار عملية الاستيطان والضم في الضفة وتعمل على تثبيت هدنة طويلة في غزة. المشروع الصهيوني ماض في سرقة الأرض. من تبعات هذه الصفقة وفقاً لجقمان هو إنشاء تحالف عربي-إسرائيلي. وقد رد المسار الحالي إلى التطورات التي تبعت انطلاق الثورات العربية عام 2011 وحالة الهلع التي انتابت الحكم السعودي عندما تخلت واشنطن عن حسني مبارك. ومما زاد من الهلع السعودي والخليجي هو عقد إدارة أوباما اتفاقاً نووياً مع إيران.
لأسباب أيديولوجية ثقافية ودينية، اعتبرت هذه النخب أنّ إسرائيل امتداد للتجربة التاريخية الأميركية

شهدنا في تلك الفترة تبلور ما يشبه التطابق السعودي-الإسرائيلي حيال تحديد أبرز التهديدات وحيال إدارة أوباما، التي نهت إسرائيل عن قصف إيران عام 2010. زعزعت سياسة أوباما ثقة الأنظمة الخليجية بأميركا وحفزتها على الشروع بتطوير شراكة مع إسرائيل باعتبارها شبكة أمان إضافية. وذكر جقمان بأن محمد بن سلمان قال في أكثر من لقاء خاص بالنسبة لصفقة القرن إنه «سيتولى أمر الفلسطينيين وسيتولى ترامب أمر الإسرائيليين». وهو دعا الفلسطينيين إلى التفكير باستراتيجية بديلة بعيداً عن وهم التسوية ومن ثم التوحد حولها، مبدياً خشيته من أن يكون هم السلطة الفلسطينية الوحيد هو البقاء من أجل البقاء. كميل منصور، أمين سر مجلس أمناء المؤسسة، اعتبر أن الغاية الفعلية لصفقة القرن هو شرعنة الأمر الواقع لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي، منبهاً إلى أن الإدارة الأميركية باتت من خلال تصريحاتها تضع موضع التشكيك حق الفلسطينيين في إقامة دولة، وهو أمر لم تفعله إدارة قبلها، بهدف ابتزاز الفلسطينيين ودفعهم للموافقة على أي حل يقدم لهم مهما كان. واعتبر أن ما يعرض عليهم عملياً هو نوع من الحكم الذاتي على أراض منفصلة عن بعضها البعض وخاضعة لسياسة السيطرة والتحكم الإسرائيلية. وهو أدرج في السياق نفسه، قيام واشنطن بوقف تمويل الأونروا كجزء من خطة لتصفية قضية اللاجئين. وقال إن السياق الدولي الحالي الذي يتميز بصعود التيارات اليمينية والعنصرية يدفع الحكومة الإسرائيلية إلى الإجهار بمواقفها ومشاريعها بدعم من الإدارة الأميركية. تلا المداخلتين تعقيبان. الأول لجابر سليمان، الباحث في مبادرة المساحة المشتركة، الذي أشار إلى أن القرار الأميركي حيال الأونروا جاء كنتيجة لحملة بدأها اللوبي الصهيوني في الكونغرس منذ عام 2013 وتصاعدت الحملة منذ نقل السفارة الأميركية إلى القدس. غير أنه أكد أن اللاجئين الفلسطينيين سيبقون من منظور القانون الدولي لاجئين، ولا أحد يستطيع نزع هذه الصفة عنهم. ماهر الشريف، المؤرخ والباحث في المؤسسة، رأى من جهته أن مواقف ترامب حيال القضية الفلسطينية نابعة من سياسته العامة التي لا تقيم وزناً للأمم المتحدة ولقراراتها ولا للقانون الدولي والتي تنطلق من تعريفه لمصالح الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل بمعزل عن أي اعتبارات أخرى.