في مناسبة يوم المهاجرين العالمي، احتضنت «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية) الأسبوع الماضي شريطاً بدعم من منظمة العمل الدولية. «شكراً صوما» (55 د ـــ 2018) وثائقي حمل توقيع المخرجة اللبنانية التي تأمل أن يساعد عملها في «تغيير المواقف ويؤدي إلى تحسينات حقيقية. لقد شاركت صوما ونور قصتهما بشجاعة مع العالم، أملاً في إلهام التغيير». يهدف الشريط إلى تغيير النظرة السائدة إلى العاملات والعمّال المنزليين المهاجرين. على أن يعرض لاحقاً في المدارس والجامعات في عدد من الدول العربية.منذ ثلاثين عاماً و«صوما» تقيم مع العائلة. تغسل الصحون منذ ثلاثين عاماً، وتمسح الغبار منذ ثلاثين عاماً. لا يمكنها أن تتقاعد، ولا يوجد تقييم عادل لأجرها، ولا تعويض لديها في الضمان الاجتماعي. وغالباً، بما أننا في لبنان، يمكننا أن نفترض، أن في الحيّ حيث تقيم، ثمة من يسمّيها «السيرلانكية»، أو «سيرلانكية آل كذا». تعرف من لبنان القذائف وتتذكر الحرب. لم تر أرز الباروك، ولم تتناول الكبة النية مع العرق على ضفاف النهر. لم يعد يوجد نهر في لبنان. ولا بحر قريب من الجبل ولا العكس. تقيم في المنزل وتعمل في المنزل، وحياتها كلها هنا في سجن المنزل. العائلة التي تسكن معها طيبة. المدام وبابا ونور وحمودي. ولكنهم ليسوا أهلها في النهاية. صار عمرها 57 عاماً، ولديها أحفاد تتحدث معهم عبر وسائط الفيديو، ولكنها تقيم هنا في لبنان، وهو ليس مكان عيشها في الأصل. والدها ووالدتها مسنان. وغالباً، لا يعرفان الكثير عن عِقد التفوق في لبنان، وعن تحول الدفاع عن العامِلة إلى موضة، وعن «الأشاوس» الناشطين، وعن الجمعيات الأهلية التي «تملي» على الصحافيين والصحافيات ما يكتبونه، وكيف يقولونه، عن العبودية والمرأة و«تأخر» الشرق عن «ركب» الحضارة. من هنا، يمكن القول إن النقطة الإيجابية الأولى في فيلم «شكراً صوما» (55 د ـــ 2018) لكارول منصور، هي «صوما». فهي تعرف أكثر بكثير مما يتخيّله «الناشطون» الذين يعملون بجهدٍ على ملء عقولهم بالـ«الحضارة»، وبتعلم الحضارة، من مراجع ليست صاحبة تجربة أكثر منهم، أو فهماً، إنما هي مراجع تعتقد أنها تملك «مفاتيح» الحضارة. وهي مفاتيح «بيضاء» طبعاً. ويمكننا أن نسأل صوما وأهلها وجيرانهم عن الكولونيالية وعن آلية «استجرار» الحضارة! في هذا السياق، يجب أن يشاهد شريط «شكراً صوما»، أو أي شريط من ذات الصنف. لا ينبغي إهمال هذه النقاط، ونقاط أخرى كثيرة، عندما نتحدث عن وضع العاملة الأجنبية. وفي لبنان يجب الانطلاق من أرضية صحيحة، وليس من الهواء. من حقيقة الظلم والتمييز ونظام الكفالة، في موازاة «التمييع»، الذي مارسته وتمارسه جمعيات وناشطون وحكواتية، يستثمرون بسفاهةٍ في الأزمة.

صوما مع حفيدتها

يقترح الفيلم، حتى مرحلة متأخرة جداً منه، سردية تقريباً معروفة. عائلة بنكهة بورجوازية، أفرادها طيّبون، وتقيم معهم العاملة، منذ ثلاثين عاماً. ويحبّ الطيّبون العاملة. وحتى الآن، كل شيء «طبيعي». فهي «إنسان في النهاية»، ويمكن أن يحبّونها، حتى ولو أنها «تعمل لديهم». سيحبّونها إلى درجة أن نور، الابنة المدللة للعائلة، تقرر الذهاب إلى سيرلانكا، للتعرف إلى حياة «صوما»، وإلى عائلتها. ستكتشف هناك أن المنزل «ليس كالمنازل في دول العالم الثالث»، كما توقعت، وأن كل شيء «مرتب». لفتها أيضاً أنها وجدت «كتباً ودفاتر». كتب ودفاتر في سيرلانكا، ليس فيلة فقط. والحق، قبل إطلاق التهم المتعسفة، أن هذا ليس ضدّ نور، وهذه إيجابية أخرى في الفيلم. شجاعة الابنة على الاعتراف، وقبل ذلك المواجهة، وإن كان الشكل الذي يقترحه الشريط في البداية للمواجهة شكلاً هزيلاً. لكن ما هو محيّر، لماذا يدور الشريط حول نور، وليس حول صوما. وإن كانت الإجابة ـــ مهما حاولنا التنصل منها ـــ تقفز بوضوح إلى أمامنا، على نحوٍ لا يمكن تجاهله. مركزية نور، بالمقارنة مع «صوما»، كما هي حال، مركزية رأس المال، عند مقاربة أي مسألة طبقية. فرأس المال ليس درساً محفوظاً، أو معادلة اختبارية، بل هو، كما يسميه حميد دباشي «مختلط أيديولوجياً»، وهو بذلك جاهز للهيمنة على أي ثقافة. حتى أنه، في حديث مشترك بين نور وصوما، هناك قرب المعبد البوذي الكبير، تمازحها العاملة بالقول: «مِن مالك». وكأن هذا المال، يبقى مالاً مشروطاً، وليس حقاً مكتسباً أو أجراً على عمل.
لا يمكن تحميل نور، المُحبّة لصوما حباً صادقاً وواضحاً وزر علاقة شائكة ومعقدة وطويلة، بين رأس المال وبين العامل، بين النزعة البيضاء وبين ضحاياها. لا يمكن تحميل فرد واحد عبء هذه المباحث، خاصةً وأن نور، حاولت وأعلنت في نهاية الفيلم، أن «الأمور تغيّرت بعد رحلتها». وأن لصوما حياة يجب أن تكون مختلفة. لكن، يجب أن نتذكر أنه منذ ثلاثين عاماً و«صوما» تقيم مع العائلة. تغسل الصحون منذ ثلاثين عاماً، وتمسح الغبار منذ ثلاثين عاماً. لا يمكنها أن تتقاعد، ولا يوجد تقييم عادل لأجرها، ولا تعويض لديها في الضمان الاجتماعي. ولا أحد في الشريط سألها عن رأيها في كل هذا. إنما سئلت عن «الطفولة»، كما لو أن علينا أن نكتشف أنه كانت لديها طفولة، أم أن هذا ليس معروفاً.
لا يمكن تحميل نور، المُحبّة لصوما وزر علاقة شائكة ومعقدة وطويلة، بين رأس المال والعامل

وتحدثت كثيراً عن المدرسة، كأننا يجب أن نفاجأ هنا، أنه كانت لديها مدرسة، وأن لديها زوجاً، أحبته منذ كانت طفلة، وأنه استغلها، وصار سكيراً. منذ ثلاثين عاماً، وهي تعاني من أشياء أخرى، ويجب أن تسأل عن رأيها فيها. شكراً «صوما» وهكذا ينادونها منذ ثلاثين عاماً. ولكن علينا أن ننتبه أن «صوما» تفضّل اسمها الأصلي وإن كان طويلاً، وأنها لا تحب أن يقال لها «صوما». ولا يمكننا أن نعرف، أو نفترض، أو نجيب عنها. ورغم التغيير الشجاع الذي تعترف به نور، في نهاية الرحلة الاستشراقية إلى سيرلانكا، حين تقول إن هذه ليست حياة، وأن صوما لا يجب أن تكون مضطرة لكل هذا. الخلاصة جاءت معاكسة للاعتراف الشجاع، خاصةً أن صوما، تعود إلى لبنان، لتغسل الصحون وتمسح الغبار وتتابع الحياة نفسها التي تستمر منذ ثلاثين عاماً. ولنكن إيجابيين قليلاً، و«متعولمين» إلى حدّ بسيط: صوما تحبّ العائلة والعائلة تحبّها. وهذا «أشفى حالاً» ربما. ماذا عن البقية؟ شكراً صوما، والشكر موصول بنظام الكفالة!


Thank you Soma - Trailer from Forward Film Production on Vimeo.