دمشق | الطريق إلى مسلسل «غفوة القلوب» (تأليف هديل اسماعيل ــ إخراج رشاد كوكش ــ إنتاج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي») يمرّ من الشام الجديدة «مشروع دمّر». هذا الطريق لم يتغيّر، حتى في أحلك الظروف. بقي على هيأته المُترفة التي توحي بأن العاصمة لم تعرف طعم الحرب! الحدائق الموزعة بشكل فني، صرح «الجندي المجهول» والشوارع العريضة، والإضاءة المنظمة... كلّ ذلك يجعلنا نسأل أنفسنا كيف صمد هذا الطريق طيلة الحرب بدون أدنى خلل. لعلّ ذلك يعود إلى قربه من «قصر الضيافة» ورغبة الدولة بإبقاء حركة السير فيه منظمة كعقارب الساعة... في «مشروع دمّر» دائماً، سنتذكر حالة التعايش التي فقدها السوريون بعد الحرب. المنطقة السكنية التي أنجزت لأكاديميين ونقابيين بجهود حوالى 15 نقابة، تحتوي على كلّ الأطياف والمشارب السورية، حتى إنها تتداخل مع منطقة «وادي الرز» العشوائي المسيّج بالفقر. سننتظر عند «الكنيسة» الشهيرة الممثل فاتح سلمان حتى يوصلنا إلى موقع التصوير. نستهلّ الحديث معه عن شخصيته في المسلسل، فيقول بأنه عُرض عليه دور بمساحة أكبر من مساحة الدور الذي يؤدّيه، لكنّه فضلّ شخصيّته الحالية، لأنها بمثابة محرّك حقيقي للحدث، بخاصة في ما يتعلق بجريمة القتل. يوضح: «أجسّد شخصية شاب ذكي جداً، لكنه مصاب بمس الغيرة من صديق غني نتيجة ظروف قاسية عاشها سابقاً في حياته، فيوظف دهاءه لصالح علاقات غير شرعية. يتردد مع صديقه الغني إلى بيت دعارة، ويقعان في غرام فتاتين تزاولان هذه المهنة، إلى أن تقع الجريمة في ليلة يسيطر عليها التهور وغياب التركيز. لكنّه في النهاية يجد طريقة لإخراج صديقه من الأزمة، وإلصاق التهمة بفتاة بريئة من بنات هذا البيت. يتعرض بعدها لضرب مبرّح على يد عصابة تلاحق القرص الذي سجّلت عليه الجريمة، ويدخل في غيبوبة ليصحو منها على اهتمام صديقه، فيجد نفسه كأنه قد ولد من جديد ويبدأ باعترافات مهمة أمام صديق عمره».حالما ينتهي الحديث، نجد أنفسنا في منزل القاضي طارق الهاشمي (يلعب الدور سوار الحسن). القاضي الشاب والطموح الذي يعمل في محكمة الجنايات، سينطق بحكم يعتبر جوهر حكاية المسلسل. ننتظر وقتاً طويلاً حتى يأخذ الفريق استراحة الغداء، ليتاح لنا الحديث مع صنّاع العمل الذي تؤدي بطولته مجموعة من النجوم من بينهم: أحمد الأحمد، مرح جبر، ناظلي الروّاس، ريم زينو، دانا جبر، حسام تحسين بيك، فاتح سلمان، سوار الحسن، مأمون الفرخ...
دانا جبر في مشهد من المسلسل

البداية كانت مع كاتبة المسلسل هديل اسماعيل التي تقول لـ «الأخبار» بأنّ القصة «تناقش محاور رئيسة وفرعية تتمتع بالأهمية نفسها من بينها الأسرة وعلاقاتها القريبة والبعيدة، إضافة إلى الخوض في قصص حب أبطالها في مراحل عمرية وأوضاع مادية مختلفة. من جانب ثان، نسلط الضوء على الأمور النفسية، إذ لا أبالغ لو قلت بأن المرض النفسي هو مرض العصر. فقد طرحت قصصاً حصلت نتيجة تشابكات نفسية منها قصة المربية سهام التي تدمج بين الأخطاء الأسرية والنفسية، وتولي ثقة مطلقة للشخص المتعلم المختص. أجرب القول بأنه لا يمكن إعطاء الثقة المطلقة بناء على هذا التقييم، خاصة إذا تعلق الموضوع بتربية الأطفال، وفي الوقت نفسه لا أنتقص من التحصيل الدراسي والعلمي. كذلك، يناقش العمل بطريقة سلسة أضرار وفوائد وسائل التواصل الاجتماعي. وفي سياق مختلف، جرّبت إيصال رسالة تنحو دائماً إلى التماس الأعذار للآخرين. وأخيراً وصلت إلى نتيجة بأن الدم السوري على السوري حرام». وحول طرح موضوع القرص المدمج الذي يتم البحث عنه في مسلسلات سابقة بطريقة مشابهة، تجيب كاتبة العمل: «لا رابط بين قصة هذا المسلسل وأيّ قصة أخرى إلا بالتسميات، بمعنى أنّ هناك قرصاً مدمجاً يتم البحث عنه. هذا فقط المتشابه، علماً بأن النص موجود منذ أربع سنوات في المؤسسة العامة للإنتاج».
أمّا المخرج رشاد كوكش، فيقول لـ «الأخبار» بأن مسلسله هو «التجربة الأولى لكاتبته. أما موضوعاته فتعتمد على الصراع الكلاسيكي بين قيم الخير والشر من دون التطرق إلى الأزمة السورية نهائياً. لكنه يبحث في الظروف والخبايا المجتمعية التي تراكمت بعد الحرب، من خلال جريمة قتل ارتكبها شاب ابن عائلة غنية نتيجة التهوّر والخطأ. هذه الحادثة سجّلت على قرص مدمج، ومن الطبيعي أن يحصل هذا في زمن لم تعد هناك مساحة لأي شخص للاستفراد بنفسه، من دون أن تلاحقه إحدى الوسائل التي يمكن أن تراقبه. يقع هذا القرص بيد شرطي سير متقاعد (يلعب دوره أحمد الأحمد) وقد راح يعمل كسائق تاكسي بعد تقاعده، محاطاً بظروف فقر مدقعة في حياته وسكنه العشوائي. هنا يقع تحت ضغط هائل: هل يسلم ما عثر عليه للشرطة ويرتاح أم يستسلم للمغريات المالية التي انهالت عليه؟». يشرح كوكش بأن هذا هو الحامل الرئيس للحكاية المدعومة بمجموعة قصص قصيرة تدور في فلكها، وتنسج أحداثها حول شخصيات العمل أنفسهم. «هكذا، نشاهد قصص حب مختلفة. واحدة بين ابن الشرطي وعازف ساكسفون. تبدو القصة ناضجة وحقيقية وتتخذ منحى جدياً، بينما نشاهد علاقة أخرى لشاب قذر يجرّب التغرير بفتاة قاصر. إلى جانب تلك القصص، نمرّ على العلاقات الاجتماعية السائدة في العشوائيات، وهو ما يميّز هذا المجتمع رغم أنه محكوم بالفقر وسوء الخدمات. في المقابل، نسلّط الضوء على المجتمع الغني والقطيعة القائمة بين أفراده، وهذا منطقي وواقعي، فإذا سكنت اليوم في منطقة فلل في يعفور مثلاً، ستجد بأن الناس لا يعرفون بعضهم ولو عشتَ في حي واحد عمراً كاملاً».
وعن مقولة العمل ورسالته، يفصح مخرج «العقاب» بأن ما يريد قوله أشياء كثيرة منها «أن الحرب فرزت الشعب السوري بشكل حاد وزادت غربته في وطنه، عسانا نحاول أن نقول ليت الماضي يعود، من خلال شرطي سير مصرّ على حمل الراديو للاستماع إلى أغنيات عمالقة الطرب. صحيح أن الحنين الدائم للماضي والعيش على الأطلال مسألة مغلوطة بشكل كلّي، لكن الفكرة أن حاضرنا سيئ ومستقبلنا مجهول، لذا لا ملجأ لنا سوى بالاستكانة إلى الجمال الذي كان في الماضي». نسأله: هل هذه القصة الكلاسيكية ــ إن صحّ التعبير ـــ حرّضت الوجهة الإخراجية على اجتراح حلول بصرية مبتكرة أو محاولة التغيير وتقديم منطق مختلف عما سبق وقدّم في هذا النوع من الدراما؟ يجيب كوكش بصراحة كبيرة: «قد يقال عنّي بأنني مخرج تقليدي ولستُ أبالي بذلك الاتهام، طالما أنّ المقصد الرئيس من شغلي هو الأمانة المطلقة للورق، والتواصل السلس والسليم مع الجمهور. النص هو الذي يحرّض المخرج ويقود في طياته فعلياً وجهة النظر الإخراجية. لذا، لست ميالاً للاستعراض واستخدام معدّات التصوير بنية استعراض العضلات. المهم أن تصل الفكرة عبر أداء ممثل رصين ومتمكن بعد نقاش عميق معه ووصول إلى صيغة معينة. استخدمنا «الكروما» واشتغلنا على صيغ غرافيك حديثة، إضافة إلى خدع بصرية معينة، وهي مسألة يتطلّبها النص من خلال إضافة واقعية وتوظيف منطقي للمؤثرات، لا بقصد الاستعراض المجاني، ومن دون تغييب العناصر الأخرى المهمة ــ ومنها الممثل ـــ على حساب إظهار إمكانيات المخرج». من جانب آخر، يوضح كوكش بأن العمل «أتاح فرصة لاستقدام عدد كبير من الممثلين الشباب، خاصة أن الأدوار الصغيرة مكتوبة بمنطق تصاعدي وحبكة مقنعة. لذلك، وافق على أدائها ممثلون خريجون وأكاديميون، وأعتقد بأنهم استمتعوا بالتجربة، لأنني أتعاطى بمرونة كبيرة مع الممثل، وأترك له فرصة للاجتهاد والاقتراح شرط ألّا يضر ذلك بالنص الأصلي». أما بخصوص الانتقادات التي لاحقت اختيار النجم السوري أحمد الأحمد على اعتبار أنه أصغر عمرياً من الدور الذي يؤديه، فيستشهد كوكش بحديث النجمة المخضرمة منى واصف عندما قالت بأنها كانت أصغر من الممثل الراحل عدنان بركات ولعبت دور والدته، ثم دارت الأيّام ولعبت دور ابنته لعدم توافر البديل! ويضيف: «نحن في مشروع «خبز الحياة» الذي أطلقته «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني» الذي أتبناه وأدافع عنه بقوة، لا يمكن أن تدفع أجور خرافية يطلبها عادةً النجوم في هذا العمر، لذا لم يكن أمامنا إلا خيار جيل الأربعين. ورغم تردد الممثل، إلا أنه وافق وبدأ بإنجاز الدور على شكل كاركتير يظهر مقدرات أدائية خاصة لدى الممثل».
يبحث المسلسل في الظروف والخبايا المجتمعية التي تراكمت بعد الحرب


بدوره، يخبرنا الممثل مأمون الفرخ عن شخصيته الجديدة عليه «كونها لها علاقة بالإدمان والمخدرات وترويجها، والسبب هو الظرف الاجتماعي الذي يعيشه. بعد ارتباطه بفتاة أصغر منه بكثير، يروح يفرّغ عقده وإشكالاته من خلال التعاطي السلبي معها، إلى درجة أنها تهرب وتتحول إلى فتاة ليل، تعمل في الكباريهات الرخيصة وتمارس الدعارة. ويلتقي بفتاته مجدداً، فيحاول تغيير مسار ما وصل إليه والإقلاع عن المخدرات لإعادة المياه إلى مجاريها». من جهة ثانية، يوضح الفرخ بأنه لا تعنيه مساحة الدور وحجمه بقدر ما يهمه أن يكون حاضراً وفاعلاً في الحدث بمنطق جوهري.
أخيراً، صودف مدير المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني زياد الريس في موقع التصوير قبل رحيلنا بدقائق، فاستغلينا الفرصة للحديث معه عن المشروع. يقول: «مشروع «خبز الحياة» هو رغبة في تقديم أكبر عدد من الأعمال الدرامية بالميزانية المتاحة عند المؤسسة، لكن بدون استفراد النجوم بالحصة الأكبر من الأجور كما كان يحصل سابقاً، بل بالاعتماد على أكبر عدد من الممثلين والفنيين الشباب لأن المؤسسة لا تعمل بمنطق ربحي، ولا يتاح لها البيع لمحطات كبيرة. لذلك فهي تعتمد على توفير الفرص. وأيضاً لو باعت للمحطات السورية فقط، فإن عائداتها ستتضاعف في هذه الحالة. المشروع والمؤسسة يعملان بشكل منهجي، ويجب العناية الإعلامية بما يقدمانه».

خلال تصوير غفوة القلوب