لندن | سواء بأغنيات ليونارد كوهين الشاهقة الكلمات واللحن والصوت معاً، أو بملامح وجه ماثيو ماكونهي، مؤدياً أفضل إطلالاته المهنيّة على الإطلاق في دور المحقق المتشائم دوماً رستن كولي، أو في نصوص الحوارات والهمهمات المغرقة بالمعاني التي كتبها نيك بيزولاتو أو في تفاصيل السينوغرافيا والموسيقى التصويريّة ولوحات «اللاندسكيب» للمناطق الذابلة من لويزيانا أو في سلاسة إخراج السّرد الدراميّ عبر ثلاثة أزمنة متقاطعة، كان الموسم الاوّل من مسلسل «ترو ديتيكتف» نقلة استثنائيّة نوعيّة في الدراما الأميركيّة دفعت نقاداً كثيرين إلى اعتباره «أفضل ما أنتج من مسلسلات في الذاكرة المعاصرة». الأجواء السوداويّة للقصة وإسقاطاتها الفلسفيّة العميقة في تحليل العنف الذي يوقعه البشر ببعضهم، وعلاقة الزمالة المتناقضة التي جمعت المحققين كولي ومارتي (أدى دوره باقتدار وودي هاريلسون)، سحرت الجمهور الأميركي الذي كان قد ضاق ذرعاً بكل برامج التحقيقات البوليسيّة الكثيرة، وخفة الشاشات في التعاطي مع مسائل الموت والحياة، وتقديمها فساد رجال الشرطة ــ في حال تطرقها إليه ـــ بوصفه مجرد استثناء تعود المؤسسة وتستأصله من دون رحمة، كما اقتصارها المشين على تصوير العنف وتسجيل وقائعه المؤلمة من دون البحث في ما وراء هذا العنف، لأبعد من السيكولوجيا المنحرفة لقاتل فرد.
خلال بحثهما عن قاتل متسلسل غامض طوال أكثر من 17 عاماً، يكشف المحققان النقيضان كولي ومارتي تدريجاً عن منظومة الظلام القابعة خلف العنف المباشر الذي تسجله دوائر الشرطة: القتل والاعتداء والاغتصاب والتعذيب والمتاجرة بالرقيق. «ترو ديتيكتف» كأنه سلافوي جيجيك (انظر كتابه Violence) الذي يريدنا أن ننظر أبعد من هذه الأشكال المرئيّة للعنف، لنجد أنّ جميعها لا يمكن فهمها ولم يكن لها أن تصبح ممكنة، لولا ذلك الشكل الأعمق من العنف القاتل الذي تمارسه المنظومة الرأسماليّة المهيمنة على المجتمع الحديث. عنف تُوزِّعه متدثراً باليومي والمألوف والقانوني، حتى اعتدنا وجودَه في حياتنا ولا يكد يلحظه أحد، ولا تنقل جرائمه في نشرات الأخبار.



بينما تغرقنا الشاشات في قصة إقدام نجم مشهور على قتل عشيقته مثلاً، لا أحد يسجّل وقائع موت آلاف قتلهم التشخيص المتأخر للسرطان في مستشفيات الفقراء مثلاً، أو في الموت المبكر لآلاف آخرين بسبب تلوث البيئة والمنتجات الاستهلاكية السيئة للمشروع الرأسمالي، بل والنظام الاجتماعي – الاقتصادي الكلّي المتسم بانعدام العدالة وتغوّل طبقة فاسدة قليلة على مقدرات المجتمعات وإعادة إنتاجه للفقر والفقراء. كولي يأخذ بيدنا ـــ حلقة بحلقة كما سقراط معاصر ــــ ويفتتح أعيننا لنرى أن تلك الجريمة الفرديّة الفادحة ليست إلا عرضاً وابنة شرعيّة لعنف المنظومة الأعمق والأكثر إظلاماً، وأن الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة والتشريعيّة نفسها المكلفة القبض على القتلة التافهين الأفراد ومعاقبتهم، ما هي إلا جزء لا يتجزأ من منظومة العنف والإجرام المجتمعي الأكبر الذي تمارسه الرأسماليّة بحق البشر. حتى الأطفال في الموسم الأول يقدّمون على حقيقتهم: هم ليسوا ملعونين بالفطرة، لكنهم محكومون بانعدام فرصة التحوّل إلى بشر طبيعيين. إذ يطحنهم الفقر ويجبرون في مدارسهم الباهتة على تجرّع دهمائيات دينية وخزعبلات أسطوريّة ويتعرضون في محيطهم للاعتداءات الجنسيّة وسوء المعاملة. تتشقق أمام أعينهم أرواح أهاليهم وهم يطاردون أسباب العيش في مجتمع تحتكره القلّة. لم يعد السؤال إذاً في «ترو ديتيكتف»: لِمَ ينحرف البعض وينتهي مجرماً؟ بل ربما كان يجب أن نتعجب لِمَ لا ينحرف الجميع في ظل هذه المنظومة المنتنة. لكن سقراطنا الأميركي المعاصر هذا يلقي إلينا بأحجياته الفلسفيّة دائماً وهو ذاته يترنح على الحدود بين الخيانة وكراهية الذات وإدمان المواد المهلوسة والفساد، وبين الإحساس الشديد بالواجب والقدرة على الاستمرار بالعمل بشغف، والإيمان الذي لا يتزعزع بعدالة لا تتحقق يوماً في حياة البشر التعيسة القصيرة كأنه يحكي استحالة النجاة الفرديّة أو كذبة الإنسان النبيل في هذه المواجهة العبثيّة مع المنظومة.
الموسم الثاني (بطولة كولن فاريل وراشيل ماك آدامز) يروي قصة مستقلّة عن الموسم الأول وبممثلين مختلفين تماماً، لكنّها تتبع النسق العام ذاته الذي كان عليه الموسم الأول. هنا ثلاثة محققين من دوائر أمنية مختلفة في كاليفورنيا، يعانون بدورهم من مآزقهم الوجوديّة كأفراد يطحنهم المجتمع. لكنهم مع ذلك يمتلكون إحساساً عميقاً بعدالة موهومة يدفعهم إلى بحث لا يكلّ في سلسلة جرائم ذات علاقة باغتيال سياسي فاسد، مقلبين في طريقهم المضني أوراق فساد المنظومة الكليّة. ورغم أن المسلسل استقطب وقت إطلاقه الأعداد الغفيرة نفسها من الجمهور التي تابعت الموسم الأوّل، وأن كثيراً من النقاد عدّه استكمالاً للجدل الفلسفي الموثق درامياً الذي طرحه بيزولاتو في ذلك الموسم، إلا أن آخرين رأوه أقلّ قوّة من سابقه. وتساءلت إحدى الصحف الأميركيّة عمّا إذا كان بيزولاتو قد استنفد سحره كلّه بعد أول ثماني حلقات.
ويبدو أن تلك الانتقادات أصابت بيزولاتو ـــ وهو الروائي الشديد الحساسيّة لما يجرى من حوله ــ بالاكتئاب، ودفعته إلى التروي أربع سنوات كاملة قبل تقديم موسم ثالث، بينما لم يفصل بين الموسمين الأولين سوى أشهر. الشركة المنتجة HBO أيضاً ضغطت بشدّة عليه للعودة، لأنها بحاجة إلى مسلسل رئيسيّ تستند إليه، بينما يتجه «لعبة العروش» نحو نهايته المحتومة هذا العام، وهي بالتأكد ستسارع بالتجديد لمواسم قادمة إن نجح علي ورفاقه في تقديم عمل ناجح يستعيد ألق الأيّام الأولى للمسلسل.
سقراط معاصر يرينا كيف أن الجريمة الفرديّة ابنة شرعيّة للعنف الأكبر الذي تمارسه الرأسماليّة بحق البشر


إشارات النقاد الأولى إيجابيّة حتى الآن، وإن كان موسم كولي ومارتي الأول ما زال يتربع على عرش قلوب الجمهور ويصعّب المهمة على الجميع ـ ممثلين ومخرجين وحتى على بيزولاتو نفسه ــ لإنجاز عمل يفوقه. لكن ماهرشالا علي تحديداً يواجه تحدياً مزدوجاً: أن يتفوق على ماثيو ماكونهي (المحقق كولي) أداءً، وتلك مهمة غير سهلة على أي ممثل، وفي الوقت نفسه أن يقدّم أداءً مقنعاً في دور محقق أسود في منطقة معروفة تقليدياً بأنها بيضاء عرقياً. لكن الرجل نجح ــ وفق صحف أميركيّة ــ في إقناع بيزولاتو الذي كان قد تواصل معه بشأن دور فرعيّ في الموسم، ليمنحه الدور الأوّل المفترض وفق النص أن يؤديه ممثل من العرقية البيضاء. ولا بدّ من أن ذلك يعني أن موهبة علي فرضت نفسها من جديد، وقد يكرسه نجاح هذا العمل نجماً بأكثر مما فعلت جائزة الأوسكار التي حصل عليها من قبل.
النسق العام للعمل في الموسم الجديد، هو ذاته المتبع في الموسمين السابقين، وقد تحوّل إلى ما يشبه وصفة بيزولاتو الخاصة: علي يؤدي دور محقق متعب في حياته، لكنه يطارد من دون ملل ــ ضمن سرديّة تمتد عبر ثلاثة أزمنة متقاطعة ــ قضيّة لم تحلّ تتناول اختفاء طفلين في منطقة الأوزاركس في ولاية أركنساس. وهنا أيضاً يوزع البطل أمثولات فلسفيّة بينما هو يعرّي تدريجاً الظلام الدامس للمنظومة التي تتخفى وراء الاعتيادي والمألوف، بينما هي في الحقيقة الأم والحاضنة للجريمة الفرديّة المرئيّة.
نحن بحاجة لأن ينجح هذا الموسم. ليس من أجل HBO أو بيزولاتو أو علي أو حتى من أجل إسعاد جمهور المسلسل الشديد الولاء، بل لأن «ترو ديتيكتف» وحده يرينا سوء كل الأعمال المسطحة الأخرى التي تقدمها صناعة الثقافة الأميركيّة، ويسمح لنا ونحن نشاهد ترفيهاً رفيعاً بأن نفكّر قليلاً أيضاً بشأن مأساة وجودنا العبثي على هذا الكوكب.