«أحب الأشياء أولاً، فأرسمها» يقول الفنان التشكيلي دافيد داوود. هو الحب إذاً المحرك الأول والأساس في كل أعمال هذا الفنان اللبناني الذي يعيش بين باريس وبيروت. في «غاليري شريف تابت» في بيروت، يقدّم اليوم معرضه «مناظر من الداخل» الذي يضم مجموعة أعمال متعددة الأحجام، ومتنوعة التقنيات والأسطح، تملأ الصالة الكبرى للعرض بكثافتها. وداوود من الفنانين الذين يصرّون على اختيار الألوان بنفسه، فلا يشتري مواد مركبة أو جاهزة، بل يعدّ خلطة لونية كخيميائيّ ماهر، يأتي أولاً باللون كبودرة، يمزجها مع المواد الأساسية ويحضرها كمن يحضر طبخة شهية للتذوّق المسائي. بكل حرفية ودقة، وحب. «أعشق أن آتي إلى محترفي. أغلي من الداخل كلما أتيت إليه، كأنه جزء مني في الحقيقة. موجود في داخلي. أشعر أنني في بيتي هنا أكثر من المنزل». يقول دافيد وهو داخل إلى محترفه في وثائقي عنه، هذه الجملة تكاد توضح كل ما سيراه المتلقي في المعرض، فالتشكيلي الذي يصرف وقته الأعز في عالمه هذا، لا يقدم خلاصة واحدة للرائين. هنا لوحات زيتية بمختلف الأحجام، يعيدنا بعضها إلى الطبيعة وبعضها الآخر إلى خيالات ناس، مسافرين، عابرين، مقيمين أو حتى هائمين. منها ما يصل إلى حدود المترين زيتاً على قماش. وهناك لوحات تجاورها مرسومة بالحبر إحداها بورتريه يصل إلى حدود 170 سنتيمتراً، بريشة خاطفة رشيقة ولونية مونوكرومية. ثم نرى إلى جانب كل هذه اللوحات، مجموعة من الخزفيات حاك عليها الفنان قصصاً بريشة حالمة إلى حدّ كبير، تجسد أجساد الناس بتخطيطات سابحة في فلك اللون الأساسي الطاغي.
«أرض» (زيت على قماش ـــ 150 × 150 سنتم ـ 2018)

يذكر هنا أن دافيد داوود، قد تتلمذ في كلية الفنون الجميلة، والمدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس. لكن تتلمذه الأساسي والأبرز كان على يد الفنان شارل اوفريه، الذي كان هو أيضاً قد تتلمذ على يد تلاميذ المعلّم الكبير رودان. والجدير ذكره أيضاً أن داوود شارك في أكثر من مئة معرض خارج لبنان، غالبيتها في فرنسا. وقد حصل على تنويهات وجوائز متعددة منها «جائزة فريديريك كارفور الأولى للمؤسسة الفرنسية للرسم» عام 2011. انضمت أعماله إلى العديد من المجموعات الخاصة في لبنان وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا وبريطانيا وسويسرا والدنمارك.
هذا الفنان الذي جابت أعماله العديد من بلدان العالم، حط رحاله في بلده الأم، ليستقر ويطلق العنان لخياله الشاعري الرومانسي إلى حدّ كبير، ويترجمه لوحات، تطغى عليها ثيمة الطبيعة وإن أراد لها الفنان أن تكون سيرة شخصية، أو حتى سرد سفر، أو تهجير، أو غيرها. فالطبيعة والمنظر الطبيعي حاضر في كل جزء من أعماله، وتأثيره واضح حتى في البورتريه، إذ يبدو العمل أقرب إلى الأغصان أشجار. ولا ضير في ذلك، بل يؤكد كل ما تقدم على عنوان المعرض بذاته «مناظر من الداخل» أو «مناظر من الدواخل»، وقد يجوز ترجمتها حرفياً «مناظر داخلية» وهي على ما يشرح الفنان، مناظر نابعة من قلب الإنسان، ومشاعره الداخلية. أوليس معظم الفن التشكيليّ كذلك؟ ومتى تجرّدت اللوحات من المشاعر؟ حلوها ومرّها؟ في هذا المعرض بالذات، نرى أن الأعمال هي خلاصة تكثيف المشاعر، لوحات كما يريدها الناس لتثير خيالهم وأحلامهم بشكل مباشر. لكن نسأل: هل هذا أفق أم حدود؟ قد يكون اللون بُعداً، وأفقاً، ومفتاح خيال، وحلماً. ولكنه أيضاً موقف.
لوحات زيتية بمختلف الأحجام، يعيدنا بعضها إلى الطبيعة وبعضها الآخر إلى خيالات مسافرين، عابرين، مقيمين أو هائمين


تجدر الإشارة إلى أن «غاليري شريف تابت» تتيح عبر موقعها، زيارة المعرض لمن لم يتمكنوا من الحضور عبر ثلاث كاميرات تحيط بمساحة صالة العرض كلها، فتسمح بزيارات افتراضية ذات جودة عالية مع كافة معلومات عن الأعمال. ما يوسع مروحة الزوار الافتراضيين للموقع والصالة وعرضاً أوسع وترويجاً أكبر لفنانيها، واليوم بشكل خاص دافيد داوود. إذ بإمكان الزائر الافتراضي أن يقرّب الصورة لحدود قد لا يتيحها الواقع أحياناً. خطوة سباقة لا بد من التنويه بها، قد تساعد من هم خارج البلاد، في مواكبة المعرض، وحضوره والاستمتاع بتفاصيل ضربات ريشة داوود.
يستمر المعرض شهراً، ما يتيح لمحبي الفنون البصرية عموماً والفن التشكيليّ خصوصاً، زيارة هادئة لغاليري شريف تابت. ستلقاهم هناك لوحات ضخمة زيتية، يغلب عليها المنظر الطبيعي ويمر خلالها ناس ووجوه، كل مرة بطريقة مختلفة. حتى يكاد بعضهم يظن أنه في أكثر من معرض لأكثر من فنان. لكن هل هذا التنوع والتعدد يخدم داوود الفنان المرهف وفكرته وفنه؟ خارج إطار السوق؟ خارج حدود التقييم والنقد؟ الأرجح أن أعمال داوود أقرب لقول بول فاليري في وصف الرسم واللوحات، يقول: «الرسم/ اللوحات، تسمح برؤية الأشياء كما كان قد تم تأملها يوماً، بحبّ»

* «مناظر من الداخل»: حتى 15 شباط (فبراير) ــ «غاليري شريف تابت» (D beirut ـــ برج حمود) ـــ للاستعلام: 71/854000