الثالث من شباط (فبراير) عام 1947، شاب أنيق في أواخر العشرينات يجلس خلف الميكروفون متأهّباً للإعلان عن أمر يبدو عظيماً. «هنا دمشق»، إذاعة الجمهورية العربية السورية، كانت العبارة السحرية التي صدح بها صوت المذيع الأول في سوريا الأمير يحيى الشهابي، معلناً بداية إرسال «إذاعة دمشق» رسمياً، ليكون أوّل صوت يسمعه السوريون عبر الراديو، وباتت هذه العبارة لازمة وعلامة مميزة رافقت الإذاعة السورية العريقة، التي أطفأت أول من أمس شمعتها الثانية والسبعين. هكذا أصبحت إذاعة دمشق أول وسيلة إعلامية مسموعة، والمعجزة التي رافقت السوريين ولا يزال إرسالها مستمراً حتى اليوم، وتعد الإذاعة الثانية في الوطن العربي بعد «صوت العرب» في القاهرة.بدأ أهالي دمشق يتجمهرون في المقاهي لسماع الأخبار والأغاني من الإذاعة، ولم يكن في دمشق في الأربعينيات سوى عشرين جهاز راديو. بدأت «إذاعة دمشق» من مبنى مستأجر في شارع بغداد، حيث احتلّت الإذاعة الطابق الأرضي، بينما كان يعيش صاحب البناء في الطابق العلوي.
وعندما فشل صاحب البناء في إخلائها، لجأ إلى إزعاج العاملين في الإذاعة، فأوعز إلى أهله بالضرب والدق في جرن الكبة للتشويش على البث أو إحداث أصوات للإزعاج!
نشأت «إذاعة دمشق» بعد الاستقلال بينما كانت سوريا تتحرّر من بقايا الاستعمار الفرنسي. ولأن الدولة كانت تعمل على بناء مؤسساتها الوطنية، كانت الإذاعة أحد ملامح الاستقلال الوطني.
أطلقت الإذاعة عبر الجهاز الخشبي خيال السوريين، وحررتهم، وكانت المصدر الأول للخبر، ومساهماً أساسياً في الحياة السياسية، منذ إنشاء الجمهورية مروراً بالحروب التي شهدتها المنطقة بعد احتلال فلسطين.
أطلقت الإذاعة برنامج «صوت فلسطين» الذي لا يزال مستمراً حتى اليوم. ومن خلال «إذاعة دمشق»، أطلق المذيع السوري عبد الهادي البكار عبارته الشهيرة «هنا القاهرة من دمشق»، بعد توقف إرسال الإذاعة المصرية جرّاء العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956.
تركت الإذاعة أثراً وجدانياً وعاطفياً عميقاً لدى السوريين والعرب، وأثارت من خلالها الحكومات السورية المتعاقبة المشاعر الشعبية وحشدت الجماهير، خصوصاً أثناء الأزمات والحروب لتعبئة الرأي العام، واستخدمت الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية والنشرات الإخبارية والتعليقات السياسية الساخنة. وفي عصر الانقلابات السياسية، أصبحت «إذاعة دمشق» منبراً لقراءة ما يُعرف بـ «البيان رقم واحد».
كانت الإذاعة الثانية في الوطن العربي بعد «صوت العرب» في القاهرة


في عام 1953، كان مدير البرامج في «إذاعة دمشق» الأمير يحيى الشهابي يتناول طعامه في في بيروت، وكان مذياع المطعم يبث برامج الإذاعة اللبنانية، حيث قدم المذيع مطربة اسمها فيروز، دُهـش الأمير الشهابي بصوتها، ودعاها إلى دمشق مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني.
هنا شرّعت الإذاعة السورية أبوابها للفن الفيروزي، وأنتجت لفيروز «عتاب»، أغنية الشهرة الأولى. وبعدها نشأت العلاقة التاريخية بين فيروز والرحابنة مع سوريا وأهلها وخصوصاً دمشق، ولا تزال الإذاعة السورية محتفظة بكنز فيروزي عظيم يشغل حيّزاً كبيراً من مساحة إرسالها ويطغى على برامجها حتى يومنا هذا. كما أطلقت «إذاعة دمشق» عبر أثيرها مواهب فنية كبيرة من السوريين والعرب، لا يتسع لأسمائهم مقال واحد. خلقت الإذاعة جواً من الألفة والصداقة مع المستمعين، عبر أهم الإعلاميين من صباح قباني، إلى عادل خياطة، وطالب يعقوب، وعدي سلطان وغيرهم الكثير من أعلام الإذاعة، الذين أصبحت «إذاعة دمشق» بفضلهم رقماً صعباً في المنطقة، وأصبحوا جزءاً من تاريخ سوريا الحديث.
وكونها من أولى الإذاعات في العالم العربي، صدّرت «إذاعة دمشق» مئات المذيعين والمذيعات إلى العالم العربي، ولاحقاً إلى التلفزيون الذي استقطب عشرات النجوم الإذاعيين، ولا تزال الإذاعة السورية مستمرة في تخريج أجيال جديدة من العاملين في المجال الإذاعي.
تراجع دور الراديو عموماً بعد انتشار التلفزيون، واليوم تصارع «إذاعة دمشق» للبقاء، في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا تزال الإذاعة السورية تبثّ برامجها كالمعتاد من مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين في دمشق، وتحاول الإفادة من التقنيات الحديثة في الإرسال، وتستخدم منصات السوشال ميديا والإنترنت لنشر برامجها.
أسهمت إذاعة دمشق في بناء أسس الدراما السورية، وخرّجت استديوهاتها خلال أكثر من سبعين عاماً المئات من العاملين في الدراما من ممثلين وكتاب ومخرجين وفنيين، ولا تزال الإذاعة السورية اليوم مصرّة على الاهتمام بالدراما الإذاعية، التي حققت رواجاً محلياً ومنها مسلسل «حكم العدالة» الذي حقق ملايين المشاهدات بمجرد عرضه على يوتيوب!