في باكورتها السردية «أنا حالة مستعصية» (دار الجمل)، تكتب عائشة عجينة (1978) نصاً مفتوحاً لا يهمه أن يخضع لمعايير مسبقة، أو أن يكترث بسياقات منطقية. إنه مفتوح لا لرغبة الكاتبة اللبنانية في أن يكون خارج الأجناس الأدبية فقط، بل لأنه مفتوح على أي فكرة أو مشهد أو حالة يمكن أن تخطر في بالها. هناك نوع من الارتجال الممزوج بشيء من الهذيان والتداعي والتدفق المعجمي. ارتجالٌ يفتح الباب أمام أفكار سوداء وخيالات مظلمة وتصورات منحرفة، بينما رغبة الكاتبة هي أن تكشف العفن والزيف والنتانة التي نعيش فيها. النص هو بيان أُريد له أن يكون سلبياً وفظاً، وأن يكون من نوعية النصوص التي تصدم القراء والنقاد، وتدفعهم إلى امتداح جرأته وفجاجته. وهو ما تنجح فيه صاحبته فعلاً، لكن المشكلة أن الفجاجة ذاتها لا تعثر على أسلوب جذاب تصل به إلى القارئ. لا نقصد بالجاذبية تشويقاً وجماليات تقليدية كُتب النص ضدّها أصلاً، لكن الفجاجة تفتقد نضجاً ما في هذه الكتابة المكتفية بدفقتها الأولى.

قد يُقال إن الفجاجة لا تحتاج إلى ذلك، ولكن الفجاجة وحدها معادلةٌ غير كافية أو لم تعد كافية لإبهار القارئ الذي يتلقى سيلاً سردياً يمكن أن يظل بلا نهاية. القصد أن المؤلفة تكتفي بهذا السيل الذي تصرُّ أو تفضّل أن تسمّيه تقيؤاً لغوياً، بينما السيل ذاته يظل يفور في مكانه، وتتراكم السطور بعضها بجوار بعض وفوق بعض، ولا تجد «حكاية» أو سياقاً روائياً يُبطئ سيلانها من دون أن يخفف فجاجة النص وقسوته.
أغلب السرد يجري في ذهن المؤلفة أو الراوية، ويصبح مونولوغاً طويلاً تتقشر فيه الأنا أمام مراياها، ويتحول النص إلى حفلة تعنيف للذات والآخرين والحياة المجمَّلة التي يعيشها الجميع رغماً عنهم. «كمْ جميلٌ أن أخيفهم بنصٍّ قذر. القذارة فيهم، يخافون رؤيتها، يخافون النظر إلى الداخل، إلى أجوافٍ يظنونها ممتلئة الأعضاء. لا قدرة لهم على ترك خراءٍ علق بإستهم. يظنون أن الماء سيطهّرهم، سيزيل عنهم خطاياهم».
بهذه اللغة القاسية والهجائية، تخاطب الراوية الآخرين الذين هم سبب قرفها من نفسها ومن حياتها أيضاً.
«حشرة أتوق لمن يدوسني»، تقول عن نفسها. وفي أمكنة أخرى تقول: «أنا اليوم بائسة وتافهة»، و«دمامل تنمو في رأسي»، و«سأتقمّص كلبة»، و«سأمرغ وجهي بخراء لزج طازج»، و«أتريدون القيْ؟»، و«تتناسلون وتتناسلون ... إلى متى؟»، و«لن تستطيعوا إنقاذي، ملوّثة بالوحول سأبقى». الكثير من هذه العبارات يجدها القارئ مقذوفة في وجهه. النص كله يفوح بمعاني اللعنة والسأم والقرف والقسوة.
هناك رغبة متواصلة من الكاتبة بتقبيح كل شيء، ولكنها تزعم بأن الأمر كله كان ورطة: «تورطتُ أنا بالكتابة ... كشفتُ بعضاً من ذاتي، كشفتُ عورتي وكل تشوهاتي»، وتحذّر القارئ من نصها: «لا تقرأوا نصي ولا تتقمصوا
أقوالي.
ابقوا بعيداً، حاذروا السقوط فيه، قد يؤذيكم، قد يحطم أحلاماً صيفية تعتقدون بوجودها، قد يشوّه مذاقكم، قد تكرهونني، يكفيني ما عانيته». قد تكون فكرة التورّط والتحذير مجرد لعبة لغوية من الكاتبة، ولكنها تُضعف عصب النص وتكسر الانطباع الذي أرادت أن تصنعه لدى القارئ. سيُقال إنه كتابٌ أول، وسيقال إن طموحه الأساسي أن يكون فجاً. لعلّ ذلك صحيح، فلننتظر كتاباً ثانياً إذاً.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza