قد يكون أول ما يفاجئ المشاهد في فيلم أصغر فرهادي «الماضي» (2013) الذي طرح أخيراً في الصالات اللبنانية، هو قدرته على تحويل الواقع اليومي المعيش إلى متخيل من دون أن يلجأ فعلياً إلى عناصر الدراما الاعتيادية. إنها تفاصيل شبه عشوائية من الحياة اليومية للشخصيات يشكلها فرهادي ويلصقها خالقاً عبرها ما هو أشبه بملحمة إغريقية باستثناء أنّه لا مجد يحيط بأبطاله، ولا هدف واضحاً يرنون إليه، وإن كان الشغف هو الذي يسيّرهم. ربما كان الاهتمام بالتفاصيل هو العامل الوحيد الذي يقترب بالفيلم من السينما الإيرانية.
في «الماضي»، لا نجد أياً من الخصائص النمطية للسينما الإيرانية (كما نعرفها من خلال كياروستامي أو مخملباف مثلاً) بشاعريتها أو رمزية القصص التي تتناولها أو واقعيتها التي تقترب من الوثائقي في أحيان أخرى، كما في «انفصال» الذي فاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي في 2012، وبجائزة «الدب الذهبي» في «مهرجان برلين»، حيث المشهد الافتتاحي للفيلم هو لسيمين وهي تطلب الطلاق من زوجها، كذلك الأمر في «الماضي». بداية الفيلم تبدو كأنها نهاية لفيلم آخر لم يره المشاهد الذي هو «الماضي» فعلاً. نرى ماري (بيرينيس بيجو) في المطار تنتظر بترقّب وصول أحمد (علي مصفا). ما نظنه لقاءً فرحاً بين الاثنين سرعان ما نكتشف أنه نهاية هذه العلاقة، فأحمد أتى من إيران إلى فرنسا ليكمل إجراءات طلاقه من ماري بناء على طلبها. هذه البساطة الساذجة التي يوهم بها فرهادي المشاهد تصبح تدريجاً أكثر تعقيداً كلما أدخل شخصية أخرى إلى متاهة العلاقات العائلية والعاطفية المتشابكة التي يبنيها. نرى طفلتي ماري اللتين نفهم في ما بعد أنهما من زواج آخر سبق زواجها بأحمد، ثم نشاهد طفلاً آخر هو فؤاد، الذي يتضح أنّه ابن سمير (طاهر رحيم) حبيب ماري الجديد، الذي يشاركها السكن. أحمد الذي استدعته ماري لإنهاء زواجهما يجد نفسه فجأة في قلب هذه النزاعات العائلية، بناء على إصرار ماري الغريب على أن يبيت في منزلها مدة إقامته، وتحويله إلى طرف في الصراع القائم بينها وبين ابنتها، وحتى بينها وبين حبيبها الجديد، والصراع بين الماضي والحاضر والزيجات وحتى الهويات المتعددة. كأنّ كل ذلك الجنون لا يكفي. يدخلنا فرهادي في متاهة أخرى عبر طيف زوجة سمير الواقعة في غيبوبة منذ محاولة انتحارها. قد تكون أقدمت على ذلك بسبب اكتشافها العلاقة بين زوجها وماري إثر الرسائل النصية المتبادلة بين الاثنين، التي أرسلتها إليها لوسي ابنة ماري، لكننا لن نعرف ما إذا كانت قد تسلمتها فعلاً قبل انتحارها. مهمة البحث عن حقيقة انتحار الزوجة، التي يدخلها فرهادي إلى حبكته ليست سوى وهم آخر يضعنا فيه ليقودنا نحو المعضلة الأساسية. إنّها التقنية نفسها التي يستخدمها في «انفصال» عبر إدخال شخصية مدبرة المنزل، التي تتهم الزوج بدفعها عن السلالم وخسارة جنينها، حيث تنشغل سيمين بهذه الأزمة الجانبية وبإيجاد جواب يوضح ما جرى ويبرئ زوجها من هذه التهمة، إلا أن ذلك لا يحلّ أزمة زواجها. هل إذا عرف سمير السبب الحقيقي لانتحار زوجته، سيتمكن من تجاوز الماضي، أو إذا عرفت ماري سبب عودة أحمد إلى إيران وهجره لها منذ سنوات، ستتمكن من المضي قدماً في علاقتها مع سمير؟ قد نتوهم مثل الشخصيات أنّ التحرر من الماضي يكمن في إيجاد الأجوبة عن هذه الأسئلة المعلّقة، لكن في اللحظات الأخيرة من الشريط فقط، يهدم فرهادي ذلك الوهم، الذي بناه لنا حين يقترب أحمد من ماري ليشرح لها سبب رحيله، وينتظر المشاهد أن يفهم أخيراً الحلقة الضائعة، ذلك «الماضي» الذي يبدو كأنه الفيلم المفقود الذي بني على ركامه هذا الفيلم، لكن ماري ترفض أن تسمع الجواب، وتصرفه قائلة إنّ ذلك لم يعد مهماً. ذلك الجواب هو نفسه الذي ما زال سمير ينتظره وهو يمسك يد زوجته الواقعة في الغيبوبة. في الحالتين، ليس هناك من جواب شاف. وأكثر ما يمثل فكرة الماضي ربما شبح الزوجة الغائبة التي ليست ميتة تماماً ولا حيةً فعلياً.
يعتمد فرهادي في طريقة إخراجه على ما يشبه البناء الهرمي. في كل مشهد، يضيف شخصية جديدة ويخلق رابطاً بينها وبين الشخصيات. كل حدث يودي بنا إلى حدث آخر، كأن كل مشهد باب يفضي إلى آخر، وفي كل مرة نظن أنّنا بلغنا ذروة الأحداث. يفتح نافذة أخرى تأخذنا إلى معضلة جديدة، حتى يفضي بنا إلى الباب الأخير الذي هو عودة إلى نقطة البداية، أو سقوط الهرم، تاركاً مكانه ذلك الفراغ الذي هو الحاضر. في إيقاعه أيضاً، يعتمد الفيلم على مبدأ البناء والهدم المتمثل في الإيقاع الدرامي التصاعدي الذي يبنيه عبر العلاقات المتأزمة بين شخصياته المجبرة على أن تتشارك السكن في منزل واحد. من خلال المواقف التي يضع فيها شخصياته، وعبر لعبة الكاميرا والحوار، يقلب فرهادي الأدوار ببراعة بين الشخصيات والأزمان. يظهر أحمد كأنه الزوج الحاضر، وسمير في خلفية المشهد متخلياً طواعية عن دوره. الحوارات المحتدمة بقوتها الدرامية، وخصوصاً المشاهد المصورة داخل المنزل، تقترب من المسرح، الذي درسه فرهادي قبل خوضه السينما، وقد تذكر إلى حد ما بتنيسي ويليامز، لكنها في الوقت عينه تحمل قدراً من العفوية والبساطة. يعزز قوة الحوار الأداء الرائع للممثل الإيراني علي مصفا، في دور أحمد، والممثلة الفرنسية الأرجنتينية بيرينيس بيجو، التي أتقنت ببراعة دور ماري وكل التناقضات التي تجسدها (نالت عنه جائزة أفضل ممثلة في «مهرجان كان»). كذلك كان الأطفال مذهلين، وخصوصاً الممثل الصغير الياس أغيس، الذي يؤدي دور فؤاد. الكاميرا بإيحاءاتها الرمزية هي هنا لتؤكد دوماً مراوحة الشخصيات مكانها، فلا تستطيع العودة إلى الماضي ولا البقاء كما مشهد الباب في أول الفيلم، الذي يرتج من ضربات ابن سمير المحبوس داخل غرفته، الذي يركله برجله محاولاً الهرب. وحين يفتح أحمد الباب ويسأله إلى أين يريد الهرب، يخبره فؤاد أن لا مكان يعود إليه. أو مشهد ماري وسمير يتكلمان في الخارج بينما الباب الزجاجي للصيدلية يفتح ويغلق في انتظار أن تتخذ الشخصيات قرارها بالرحيل أو البقاء.




في البدء كان المسرح

لا يذهب أصغر فرهادي في أعماله إلى إظهار العلاقة المضطربة بين بلده والبلدان الغربية، بل يسعى إلى الإضاءة على الأمور المشتركة بين الطرفين. وهذا ما أكّده في مقابلة أجرتها معه إذاعة WHQR الأميركية، حين شدّد على «أنني لا أريد أن أصبح بوقاً سياسياً. أنا مخرج ومتى سمحت لي الفرصة بأن أساعد الناس على فهم بعضهم بغضاً، وأقرّب الحضارات، فسوف أفعل هذا». أما المشكلات الاجتماعية التي تنعكس في أفلامه، فهي تعود إلى نشأته في طهران، حيث دأب على قراءة الأدب الإيراني وفهم مجتمعه. كما وجد في دراسة الأدب والمسرح صوتاً لتوجهاته الفنية والسياسية، ففي حين شكّل الأدب والقراءة خلفيته الأساسية، أدّت دراسته للمسرح إلى وعيه لأهمية الدراما ودمجها مع الأدب.