الكاميرا متواضعة الإمكانيات، والمصوّر هاوٍ بلا شكّ. لكن التفاصيل الغنية بالأحداث تبعث جرعة من التشويق والحماس الممزوج بالحزن. تقبض العدسة بحزم على الدمار والأبنية المهدّمة والمقاعد المدرسية التي تحوّلت إلى أنقاض، تعلوها أعلام فلسطينية بطريقة عفوية. كل ذلك يعرض على خلفية صوت عزف على آلة البيانو. يحار المشاهد إن كان ما يتابعه هو مشهد هارب من فيلم سينمائي، أم حقيقة سورية تخطّت خيال أيّ سينمائي. لكن الكفّة ترجّح الخيار الثاني الذي يجسّده شباب فلسطينون سوريون قرّروا إيصال صوتهم بالغناء والعزف.
في مخيّم اليرموك الكائن بمحاذاة دمشق، إعتدنا منذ أشهر على سماع أصوات مستغيثة ممن بقي حيّاً من المدنيين. أصوات تعلن أنهم لا يتحمّلون مسؤولية الصراع الدائر، ولم يرتكبوا أيّ ذنب يجعلهم ضحايا الجوع. ضمن جموع المدنيين تلك، يعيش عازف بيانو يُدعى أيهم الأحمد. شعوره بالغضب تجاه ما يعانيه بلده وأهله جعله يفكّر في طريقة يعبّر فيها عن نفسه. هل يبقى مكتوف الأيدي خائفاً على حياته والناس يموتون من الجوع حوله؟ وكيف لعازف أن يكون مؤثراً في زمن الحرب؟
من هنا، قرّر الشاب الفلسطيني أن يجمع حوله رفاقاً توقّفت حياتهم بسبب الحرب أوّلهم والده الضرير، ويلحّن لهم أغنيات يكتبونها بأنفسهم. ثم ينقّلون البيانو القديم بين أحياء المخيّم لتوثيق ما حلّ به من دمار من خلال كاميرا هاوية، لكنها لن تجد صعوبة في إلتقاط التفاصيل الغنية حولها بدءاً من المقبرة مروراً بمدرسة قديمة وصولاً إلى أيّ حيّ كان يشتهر بحركته الدائمة وازدحامه التجاري. كل زاوية هنا صارت خالية من الحركة. هكذا بدأت الفكرة، وراح الشاب العشريني يصوّر أغنية تلو الأخرى، ويبثّ ما ينجزه مع زملائه على اليوتيوب، لتتلقّف صفحات الناشطين أعمالهم، من دون أن يترك المنجز المؤثّر فرصة للحديث عن أهمية مادتهم على المستوى الفني. لا الأصوات الجميلة ولا المواهب المحترفة ولا الصورة المبهرة هي الغاية، بل الهدف هو صوت يخرج مقهوراً من مخيّم الشتات ليصل إلى الجميع بحناجر شباب هم: أويس عيسى، ابراهيم خوالدة، قاسم خوالدة، محمود تميم، بدر برو، ومصطفى الباش. يطلقون نداءً في إحدى أغنياتها يقول «لا ترسلوا قمحاً من فوهات الموت، فطاحون حصاري صار يصنع لي خبزاً من عذاب، وصرت أحتسي قهراً صباحياً وصرت أنتظر موتاً مسائياً». أيهم الأحمد مايسترو الفرقة التي سمّت نفسها «شباب المخيم»، يقول في أحد المقاطع المصوّرة بأنّ «اللقب كبير عليه». ويتابع «درست العزف في المعهد العربي وأكملت في اختصاص البيانو في كلية التربية الموسيقية في حمص، كانت لدي مشاركات عدة في الدراما السورية منها «تخت شرقي» و«العشق الحرام»». يشرح الأحمد أنه تحوّل من عازف إلى بائع فلافل بعد حصار المخيم. ويوضح أنّ رسالته مع أصدقائه بسيطة وهي «صناعة أي شيء لنتمكّن من البقاء على قيد الحياة. كان لا بد من الموسيقى كلغة عالمية أن توصل صوتنا بطريقة راقية وغير تقليدية، نخبر كل من يحسن الإصغاء لصوتنا بأننا لن نستسلم».