يخوض الصحافي والروائي جعفر العطّار رحلته وتجربته الخاصة في مسرحيته «أسرار» (تعرض كل أربعاء على خشبة «مسرح المدينة»). لا يكتفي العطار بكونه كاتب المسرحية وصاحب كلّ التفاصيل فيها، بل إنه يخوض غمار الإخراج للمرة الأولى. إنها تجربةٌ جديدةٌ عليه، هو لا ينكر ذلك. لكن بعد المشاهدة، يمكن القول بأن التجربة تؤهّله لإعادتها وتكرارها، إذ لا يمكن أن ننسى أن أشهر مخرجي العالم ليسوا خريجي كليات كبرى، لا بل إن بعضهم أسس كلياتٍ ودرّب فيها وهو ليس أكاديميّاً البتة. وإلى ذلك، يشير العطار إلى أن التجربة كانت صعبة، لكنه أحبها: «قمت بالإخراج وكان أمراً صعباً جداً لأني لم أتلقَّ تشجيعاً من أحد. نصحوني أن أنتظر لكنني أقدمت على الخطوة؛ وقد أحببتها».تأتي «أسرار» مسرحيةً بحبكةٍ واحدةٍ وثلاث حكايا. إنها حكاية الصحافي (يؤدّي الدور محمد حجيج) الذي يقوم بتحقيقٍ لجريدته حول الدعارة. لكنه لا يرى القضية كما يريد أن يراها رئيس تحريره الذي يظهره بشكلٍ بشع للغاية، من خلال إصراره على «تلوين» التحقيق بالألوان والكليشيهات المعتادة: «الدعارة يجب أن تكون مرتبطة بتجارة مخدرات»، «الدعارة يجب أن تكون أمراً مفروضاً على الفتاة» وقِس على ذلك. عبر ثلاث شخصيات هنّ بائعات الهوى زينة حريري، نور غندور، فرح بزري، نكتشف «الواقعية المدهشة» على طريقة جعفر العطّار. يقدم الأخير الصورة الحقيقية لهذا العالم السفلي الغريب بتعقيداته المدهشة. بالتأكيد هناك ظلم، وأوضاع اجتماعية ومادية صعبة أودت بهؤلاء الفتيات إلى دخول هذا العالم المخيف، لكن في الوقت عينه: ماذا لو أنهن دخلنه بإرادتهن، ولو مرغمات بشكل غير مباشر؟ تحضر شخصية فرح التي دخلت هذا العالم كي تربي وتعيل ابنها، فيما هي تمتلك صالوناً للتجميل؛ لكن الصالون لا يسدّ احتياجاتها مع ابنها آدم. تدور القصص حول الفتيات الثلاث وصولاً إلى الفتاة الثالثة التي يكتشف البطل/ الصحافي بأنها صديقته/ حبيبته منذ الطفولة. كيف ستتحوّل القصة؟ كيف ستأخذ أبعادها الجديدة بعيداً/ قريباً من «الكليشيه» المعتاد لما يريده رئيس التحرير في الجريدة الذي يكتب فيها البطل؟
يقدّم الأبطال دورهم بسهولة رغم أنه اختار ديكوراً صعباً ومتعدد الأدوات


أدائياً، بدا العطار موفقاً كمخرجٍ للمرة الأولى. لا يمكن ملاحظة أخطاء قاتلة أو واضحة على المسرح. يقدّم الأبطال دورهم بسهولة على الرغم من أنه اختار ديكوراً صعباً ومتعدّد الأدوات، وهو يشبه المسرح الشكسبيري الكلاسيكي من خلال فصل المسرح إلى جهتين ثابتتين تشكلان بعدين مختلفين، وفي الوقت عينه لا يتغير الديكور أو يتحرّك نهائياً، فيما يتغير الزمان والمكان. أيضاً يحسب للمخرج الشاب أنه أحب تجربة تقنيات جديدة، فحاول الدخول إلى المستقبل الحالم من خلال أحد المشاهد. حتى مشهد «المحاكمة» الصورية في نهاية العمل بعيد عن المحاكمة التقليدية الكلاسيكية وإن قاربها بشكلٍ أو بآخر. من جهة أخرى، يحكي الروائي صاحب «الإله في إجازة» كيفية اختيار ممثليه عبر... الفايسبوك: «بعد مسرحية «أفيون» (2018) التي كتبتها وأخرجها شادي الهبر ومثلتها مايا سبعلي وفرح بزري التي ما زالت معنا، يمكن تشبيه الاختيار بالصيد. فرح مثلت معي سابقاً، وجدت محمد حجيج من خلال فايسبوك ومثله نور غندور وزينة حريري. هم ممثلون خريجو الجامعة اللبنانية، ما عدا نور فهي من «اليسوعية». بعد المحادثة الأولى، جلسنا، وتحدثنا، ثم قابلتهم لأتأكد من أنّهم مناسبون». لناحية الممثلين، برزت فرح بزري بدايةً كأفضل المؤديات، خصوصاً أنّها أعطت بعداً حقيقياً لشخصيتها، إذ تشعرك بأنها فتاة تلتقي بها في كل مكان من دون أن تتوقع أنها تعمل في هذا المجال. وهذا يحسب لها ضمن النظام الذي وضعه العطار في المسرحية. زينة حريري التي تأخذ الحيز الأوسع من الوجود على المسرح، وإن لم تكن البطلة الوحيدة، تبذل جهداً أدائياً كبيراً، وإن كانت هناك بعض الزلات، لكن لا يمكن اعتبار أدائها سيئاً، بل بالعكس، هو يذكّرنا بنجمات مسرحيات وإن بدت منهكة في بعض المشاهد. نور غندور ومحمد حجيج بديا بحاجةٍ للغوص عميقاً أكثر في شخصيتهما، وخصوصاً محمد الذي يبذل جهداً بالتأكيد، لكنه بحاجة لأن يعطي الشخصية أكثر من روحه. ففي مشاهد كثيرة، يبدو أقرب إلى المؤدي الحرفي منه إلى «الممثل». نور بدورها أدت شخصية الفتاة الخائفة المترددة بشكل جيد، لكن بعد ذلك غرقت في تكرار نمطي. صوتياً، بدت أغنية مايك ماسي المستخدمة في العمل جميلةً مع الرقصة الخاصة بها، إلى جانب الجهد المبذول من سالي بودياب كمديرة إنتاج، وربيع ياسين في اللوجستيات. «أسرار» مسرحية جميلة غير معتادة بالتأكيد لمخرج وكاتب بذل جهداً كبيراً واهتم بتفاصيل التفاصيل داخل العمل.

* «أسرار»: 20:30 مساء كل أربعاء ـ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 70/713582