في سوق الصالحية، يمكن لأي شخص عابر أن يتعرف سريعاً إلى طقوس الحياة في دمشق، كأن كلّ خصوصية هذا البلد تكمن هنا. يطل قاسيون ليس بوصفه تفصيلاً جغرافياً، إنما كرمز تغنّى به السوريون طويلاً وبالغوا في ذلك في سنوات الحرب. روح المدينة ورئتها الثقافية على مرمى حجر. القصد هنا مقهى «الروضة» الذي كان يجتمع فيه الفنانون والمثقفون يومياً على طاولات حوار وُلدت عليها أفكار مشاريع حصدت لاحقاً نجاحات وتركت آثاراً بالغة! يجانبها أقدم بسطة صحف في العاصمة يقف أمامها عادل طيلة النهار يسلّم عليه غالبية المارّة كأنه فولكلور تقليدي يرتبط بالمكان. السوق يضج بإيقاع البائعين. في آخر الطريق، ستمرّ الممثلة ديمة الجندي في ذاكرتنا حتماً، كونه جمعتنا بها لقاءات عدّة في بيت أهلها الكائن في هذا الحي. لكنّها ليست في موقع التصوير المجانب لبيت عائلتها، كونها ليست واحدة من ممثلات مسلسل «عندما تشيخ الذئاب» (سيناريو وحوار حازم سليمان ـ إخراج عامر فهد). المشاهد هنا تخص مكتب محام كبير يعمل فيه أحد أبطال العمل.وفي استهلال الحديث عن هذا العمل، لا بد من التعريف برواية الكاتب الفلسطيني الأردني الراحل جمال ناجي (1956 ــــ 2018). تلاحق الرواية مصائر شخصيات لدغتها عقارب ظروفها المجحفة، فغيّرت مسارها، متخلّية عن مبادئها وقناعتها وحتى نضالها السياسي لصالح المصلحة النفعية. من خلال مجموعة فصول قصيرة، تقدّم الرواية حكاية كلّ شخصية منذ نشأتها حتى أحداثها الختامية. هكذا، كانت المادة مساحة خام لإنجاز معادل سوري يمتلك مفردات البيئة المحلية ويتواءم مع تاريخها ومعطياته السياسية، في حبكة تلفزيونية تدور أحداثها عند تسعينيات القرن الماضي. تقدم الرواية شخوصها منذ انطلاقتها من الأحياء الفقيرة، إلى وقت تتسلّم فيه مراكز السلطة وتصبح شريكة في صناعة القرار لا يضيرها أن تمشي على جثامين المبادئ والنظريات والنضال السياسي الطويل! ووفقاً للبيان الإعلامي للمسلسل الذي يعرض في رمضان على قنوات «أبو ظبي»، فإنه «يرصد صراعات وتحوّلات شريحة واسعة من المجتمع في حقبة زمنية شهدت جملة من الأحداث السياسية والاقتصادية امتد تأثيرها إلى الوطن العربي، ويقوم على قصص مشوقة متشابكة ومتداخلة على أرضية اجتماعية وإنسانية في إحدى الحارات الفقيرة التي نتعرف فيها إلى نماذج إنسانية متنوعة تدور مصائرها في حارة شعبية تبدو للوهلة الأولى عادية. لكننا سرعان ما نكتشف أن هذا الحي كان يوماً ما مسرحاً لعدد من الأحداث والأسرار المخفية التي حكمت مصير سكانها وقادت كل واحد منهم خاتمة مختلفة». ويضيف البيان بأن «العمل سيقف عند مفترقات كثيرة بحيث تكون شخصياته في حالة رهان وصراع بين أحلامها وبين ما تفرضه الحياة». أما على أرض الواقع، فيبدو ربّان المكان أي المخرج السوري عامر فهد ممتلكاً زمام المبادرة بإضفاء حالته الكوميدية على أجواء التصوير، علّها تمنح فريقه حالة من الاسترخاء، والإنجاز الأفضل من دون التخّلي عن الضبط الصارم واحترام الوقت. يكشف في حديثه مع «الأخبار» عن عنايته المطلقة بالمسلسل باعتباره بمثابة انطلاقة جديدة بعدما حاصرته سلسلة «بقعة ضوء» لعدد من السنوات. يبذل قصارى جهده ليكون منجزه منافساً على المستوى العربي. وقد استفتى حدسه ليختار أبطاله. «لم أحتج لوقت طويل في اختيار الممثلين، ربما لأن الشخصيات مكتوبة بطريقة عميقة تزيح الستارة عن ملامحها وتجعلني قادراً على رؤية الممثل الذي يمكن أن يؤديها. مثلاً، لم تتح لي مشاهدة ما قدّمه سابقاً الممثل الشاب أنس طيارة، لكنّ لقاءً واحداً جمعني به، جعلني أرى بأنه أفضل من يلعب شخصية عزمي وجيه. وهي شخصية أساسية في العمل نتواجد اليوم في المكتب الذي عمل فيه كمحام متمرن وطرد منه نتيجة علاقته بشخصيات عليها إشكالات في الدولة». أما عن مواقع تصويره الأخرى التي اختارها في دمشق، فيقول: «مسرح الحدث الرئيس يدور في حارة شعبية تبدو لزائرها فقيرة لكّنها فعلياً غنية بالأحداث والعلاقات المربكة التي تنطلق منها القصة نحو فضاءات واسعة. اخترت حياً قريباً من مقام الشيخ محي الدين بن عربي، سيكون الحي الرئيس الذي تبدأ منه الحكاية بسبب امتلاكه كل المفاصل الشكلية التي تتضمنها بيئة الحدث». من جانب آخر، يوضح بأنّ «الرواية تمتلك كل مقومات التشويق ومساحات مهمة من الدراما. لكن ذلك لم يكن كافياً لأنه كان على الكاتب توسيع حضور الشخصيات، وإضافة خطوط جديدة، إضافة إلى إعادة تدوير القصة كاملة وفق مفاتيح تخصّ البيئة السورية وحدها! وهو ما نجح فيه حازم سليمان، وقد يكون هناك امتداد للعمل لو حقق نجاحاً وقبولاً». من جانب آخر يلفت مخرج «بقعة ضوء» إلى المنطق المنفتح الذي تعاملت معه الرقابة السورية غير آبهة بجرأة النص إنما معقّبة بملاحظات بسيطة جداً من شأنها أن تزيل من طريق المشروع عقبات لاحقة.
على ضفة ثانية، لا يبدي النجم سلّوم حدّاد أي تعاون مع الصحافة كما اعتدناه دائماً. يعتذر عن عدم الإدلاء بأي تصريح صحافي بالقول: «لم يسبق لي أن تحدّثت عن شخصية لم ألعبها بعد. المفترض أن أقدّم دوري ومن ثم يمكن الكلام عنها. حالياً يمكن النقاش مع المخرج والجهة المنتجة حول أهمية وقيمة الشخصية». طبعاً عرفنا بأن حداد يلعب دور الشيخ عبد الجليل الذي يستغلّ موقعه لمصالح مالية بحت. نكتشف من خلاله فساد بعض المؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية. كما أنه مصاب بهوس الزواج من مطلقات أو أرامل في العشرين مستغلّاً ظروفهن المادية! أما النجم عابد فهد، فيقول بأنه «أمام شخصية غنيّة تطلبت تحضيراً متروّياً وتفكيراً مليّاً في آليتها، وإن كنت قد عاينت عن قرب في حياتي بعض هذه الشخصيات، وهو ما سيساعد في إنجاز المهمة. هنا ألعب دور جبران اليساري المؤمن بقيمه وأفكاره ومعتقداته ويسرف كل وقته لخدمة أهدافه. لكنّه ينحرف نحو مسار مختلف جذرياً عندما يوضع في سياق جديد يمتلك من خلاله مفاتيح القوة وسطوة السلطة، مما يطرح سؤالاً قوياً: هل يغيّر النفوذ من المعتقدات؟»
النجمة الشابة هيا مرعشلي تجسّد شخصية سندس وتصفها بأنّها «فتاة شبقة تلحق غرائزها، وتحاول إشباع رغباتها من دون أن تفكّر في شيء آخر. لكنها سرعان ما تتزوّج، فتجد أن قسمتها كانت رجلاً كبيراً في السن لا يتمّكن من إرضاء إقبالها الهائل على الحياة. وللمصادفة فإن ابن زوجها يكون شاباً وسيماً ومحامياً أخذته الظروف نحو التديّن لكّنه لن يمسك نفسه عن حبها بعدما تقع هي في غرامه وتحاول استدراجه رغم الوضع الخارج عن المألوف وغير المسموح في كل القواعد والقيم الدينية والاجتماعية» تشرح مرعشلي مضيفةً بأنها «يمكن أن تقدم أفضل ما لديها لصالح هذا الدور لمجموعة أسباب أحدها أريحية التعاطي مع المخرج وابتعاد الأجواء عن أي تشنّج أو توتر».
يكشف المسلسل فساد بعض المؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية


من جهة أخرى، لم يقف الحظ مع الممثل الشاب أنس طيارة حتى الآن. رغم الإشادة الواضحة به كممثل من ذوي الخبرة، إلا أن غالبية الفرص التي طُرحت عليه كانت في أعمال غير ناجحة. هذه المرة يقف أمام دور عمره. إنّه المحامي الشاب عزمي وجيه الذي يضجّ طموحاً وينبض ذكاء. يقول الممثل الشاب عن دوره «الشخصية تحكي قصّة صعود. الرجل كان محاطاً بشخصيات تنتمي إلى الإخوان المسلمين وأخرى تنتمي إلى الشيوعين. يكتشف لاحقاً نفاق تلك الشخصيات وكذبها. لذا، بحث عن خطّ لنفسه يعتمد على سحق الطرفين ويصعد بمفرده. في بداية الحكاية، يمضي المحامي وقته في اكتشاف من حوله وحالة الرياء في المجتمع. يستحوذ على محبة الناس، إضافة إلى ميراث ضخم يحصل عليه، فتصبح كل مقومات القوة بيديه». ويضيف أنّ سمة الشخصية تكمن في علاقته مع أمه: «شيء يقترب من أوديب. شخص تعلّق بأمه إلى درجة أنّه لم يبك طيلة عمره إلا عندما فقدها. وقد درس وامتهن المحاماة نزولاً عند رغبتها. كما ابتلع مكتبات كاملة بسبب توجيهاتها نحو الثقافة. يُطرد من عمله في مكتب المحامي ووزارة الخارجية بسبب خاله جبران (عابد) كونه شيوعياً ضد الدولة، فيكون ردّ الفعل باتجاهه نحو الدين، فيكتشف فساد المؤسسة الدينية، ثم يقرر محاربة جميع المنافقين حوله والانتقام منهم، ويتحوّل إلى شخص قيادي».
من جانبها، تقدّم الممثلة الشابة رشا بلال دوراً جوهرياً رغم صغر حجمه. تقول لنا: «أبحث عن الشخصية المؤثرة بغض النظر عن حجمها أو مساحة وجودها، وهو ما وجدته في عفاف الشخصية التي أجسّدها، إضافة إلى نوعية العمل الاجتماعية واسم المخرج الذي لم يسبق أن تعرفت إليه، فضلاً عن شراكتي مع أسماء مهمة مثل سلوم حدّاد ومحمد حداقي». وتضيف عن جوهر الشخصية: «هي فتاة عشرينية أرملة لديها ولد يبلغ خمس سنوات. تلتقي بالشيخ عبد الجليل (سلوم) وهو رجل يحبّ الزواج من فتيات صغيرات بحجة السترة عليهن. وبالفعل يتزوج من عفاف ويُسكنها في بيته، لكّنها تمتنع عن إقامة علاقة معه، فيعتقد بأن ذكرى زوجها هي التي تمنعها. يأخذ عهداً على نفسه بأن يُسكنها في بيت وحدها ويصرف عليها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، على أن يلبي لها أحد موظفيه كل احتياجاتها. هنا يظهر في حياتها الموظف عمران (محمد حداقي) لتولد مشاعر تجاهه كونه الرجل الوحيد الذي تلتقي به، رغم أنه متطرف دينياً. تغويه بطرق عدة، وعندما يضعف أمام إغرائها ترفضه بطريقة بشعة، فيصاب بصدمة على إثرها وينقل إلى المستشفى ويصل إلى وضع نفسي سيئ بسببها، ومن ثم تصل إلى نهايات سيئة. قوة عفاف مستمدة من قدرتها على التأثير في كل من حولها».