«لا شيء ثابتٌ إلّا التغيير» ــ بوذاهي ضحكةٌ صادقة كالشمس. بصفاء خارق تحادث جلّاسها، وكثير من المحبة. رفيقتها في الضحكة والطاقة الإيجابية ـ لولا فرق العمر- أختها ألين، التي تكاد تكون ذاكرتها البصرية وأرشيفها المتنقّل. سيتا مانوكيان الفنانة الطليعية، والإنسانة الفريدة التي خاضت غمار التجربة التشكيلية بكلّ صخبها وتقلباتها منذ ما يقارب نصف قرن، شكّلت حالة فريدة في الساحة الفنية اللبنانية إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وما بعدها، كأنموذج نوعي خلّاق في إنشائه الفنيّ بصرياً ومضموناً. نوّعت المواد وسبل التأليف والتشكيل والبناء البصري. خاضت غمار تجربة النفس الإنسانية بكلّ تقلباتها وبحثها الأصدق عن الذات الفُضلى، كما لم يجرؤ أحد من زملائها، وبفرادة تكاد أيضاً أن تكون مشعّة.
سيتا مانوكيان، عادت أياماً معدودةً إلى بيروت، وقّعت كتاباً عنها صادراً عن «دار كاف». أيام قليلة، عادت فيها من كانت يوماً نجمة الحركة التشكيلية في بيروت، بعد عشرات السنوات من الغياب، لتؤكد مرة جديدة أن لا أفول. وأن عادة الشمس الشروق. «كأن لبنان قد صَغُر.. زرت حيّنا، غريب كيف أن الزاروب قد صَغُرَ أيضاً، بعد أكثر من 30 عاماً ربما. لست أدري. أرى لبنان أكثر حميمية، فشوارع أميركا واسعة، باردة، ناشفة! هنا الناس والشوارع حميمية أكثر» تقول لنا بحماسة طفولية، ثم تضيف في المقلب الآخر: «لو كنت وحدي لما عرفت أحياء بيروت. ولربما ضعت. التغيير حصل بشكل كبير. نعم رأيت أثر الحرب عند الناس. وفي البنايات المدمرة، مؤلمة طبعاً. لكن هناك أيضاً بنايات جديدة نبتت كالفطر. والجسور كثيرة! بَيْدَ أنَّ الناس ينكّتون أكثر. ما لا يمكن أن تجديه في أميركا، إلا نادراً. أما في بيروت فيوجد نوع من التراجيكوميدي. أظن أن اللبنانيين عانوا كثيراً. لذا جميل أننا نضحك! كنا نقول ذلك في وصف ظُرف المصريين، واستعدادهم لإطلاق نكات على كل شيء. والآن أصبحنا نفهم السبب». تضحك مانوكيان من قلبها، ثم تخبرنا عن أيام الحرب: «كنا نضحك من أعماقنا، لأننا كنا متنا لو لم نضحك. كان الضحك نجاة! عندما يكون هناك تراجيديا، تصبح الكوميديا التي نراها داخلها كمصدر ضحك أعمق بكثير، بسبب هذا التضاد الذي يصبح في النهاية عبثياً. وقد تكون هذه العبثية أيضاً ما يضحكنا».

تنوع المعارف: من الأبيض إلى التأمل
«وقال لي المعنى الذي يخبر به الحرف حرف والطريق الذي يهدي إليه حرف» النفري
عندما تركت مانوكيان بيروت إلى أميركا، أصبحت الشوارع والناس كلهم غرباء بالنسبة لها. حاولت أن ترسمهم، بالطريقة التي ترسم فيها الشوارع والناس في بيروت. أن تكمل عملها، وقد أنجزت عدداً من اللوحات كبيرة الحجم. لكنها وجدتها قاسية جداً. «لأنني كنت أرى الأميركيين قساة نسبياً. لذا كان الشكل في اللوحات قاسياً ولم يعجبني، فما كان مني إلا أن مزقتها. لاحقاً عندما رأيت صور الأعمال، أدركت أنها كانت جيدة. قلت -ضيعانهم- ورُحت أطلب من ألين أختي أن ترسل لي الصور مجدداً من لبنان». تخبرنا مانوكيان، ثم تشرح عن مرحلة الـ T- Shape في تأليفاتها، حيث كانت تظهر الناس غالباً بشكل أفقي في اللوحة كأنهم في الهواء. «منذ أن كنت أرسم نفسي في غرفتي، لأنني عندما عدت قبلها إلى لبنان، من إيطاليا (تخرجت من Accademia Di Belle Arti في روما)، لم أكن أهتم بالسياسة. كنت أبلغ 17 عاماً. عندما أتيت، كنت أجلس في مقهى «هورس-شو»، أستمع إلى كلام السياسة، ما ولّد داخلي كآبة فظيعة». لذا بعدها مباشرة أتت المرحلة البيضاء. هنا تشرح خيارها الانتقالي إلى المرحلة التأليفية الهامة من سيرتها التشكيلية كما المعنوية: «هذه المرحلة بالذات رسمتها لأنني كنت قد اكتشفت التأمّل وحدي. لم يعلمني إياه أحد، ولم أكن أعلم أن هناك في الدنيا تأمّلاً. جلست قبالة الحيطان البيضاء وصرت أنظر إليها إلى أن ذهبت كل الأفكار! طارت! ولم يعد هناك شيء! وصلت لصمت كامل. ولم يعد الحائط مجرد مادة. عندها، عرفت ماذا أريد أن أرسم. كان ذلك كالرقم صفر، كالفراغ. أصبح هذا الفراغ أساسياً في أعمالي لأن اللوحات كانت تنبع من الفراغ. لذلك أصبحت الخلفيات بيضاء. لأنه من الأبيض كان يصدر كل شيء إلى السطح، إلى الأعلى، إلى فوق. يعني كنت بوذية دون أن أعرف أن هناك ما يُدعى بوذيّة».
لقد كان ذلك صعباً على مانوكيان أن تكتشف كل هذه الأمور، إذ لا يمكنها أن تخبر أحداً بها، فيضحكون عليها. «عندما كنت أجري مقابلة مثلاً مع الصحافة، كنت أخبرهم هذه الأمور عن مبدأ الفراغ والأنا الحقيقية وغيرهما. لكنهم كانوا يظنون أنني أقول شعراً. يتركونني أتكلم، ثم يضعون بعضاً من الكلمات وفي أوقات كثيرة يحذفونها بشكل نهائي. لكن أصبح الأبيض في تلك الفترة بنيوياً، وأراه دائماً إلى درجة صرت أخاف وأسأل نفسي إلى أين وصلت؟ وما الذي يحصل معي؟ وما هذا الأبيض؟ وما هذا الفراغ؟ كنت أجلس قبالة البحر وأقول لذاتي، أريد أن أذهب أبعد من الموت ومن الحياة. بعد هذه المرحلة التي مررت بها، بدأت الحرب مباشرة».

من صخب الحرب واللون... إلى طمأنينة البوذية
«كل معرفة لا تتنوّع لا يعوّل عليها» ـ ابن عربي
عندما بدأت الحرب، راحت سيتا ترسم الشارع والناس. الناس وهي أصبحوا واحداً. رسمتهم بكل الألوان، وبتأليفات مركّبة حيث تتوزع العناصر بقوة رابطةً الكل من رأس اللوحة إلى كل جهاتها. لم يغب عنصر واحد عن التأليف والشارع بدا واضحاً في غالبية الإنشاءات البصرية، كأن مانوكيان تعطينا إحداثيات المناطق طوبوغرافياً. ثم ضج التشكيل المسطح بالألوان القوية. تقول لنا مانوكيان: «يعني كما لدي عواطفي وأحاسيسي وحزني، صرت أرسم الناس بهذا الشكل. ثم إن الألوان كانت قوية. لذا ألوان الأعمال في مرحلة الحرب قوية، أخضر وأصفر... مع أن الوضع كان محزناً وقد يتصور الإنسان أنه سيرسم الحرب بالأسود والأبيض والرمادي. لكنني كنت أرى الحرب ملوّنة جداً! وأظن أن هذا التضاد هو ما صنع قوة الأعمال. وهو تضاد مع كل ما يحيط بنا خلال الحرب. ثم إن الأطفال لا يرون كالآخرين. أقول -أطفال- مع أنني لم أكن حينها في سن الطفولة، لكنني كنت كالأطفال تماماً أتفرّج على الحرب، أعيشها كطفلة. لا يجب أن أقول هذا، لكنها حقيقة الأمر. كنت أرى الأمور بعين جديدة، فيها دهشة وتساؤل: ما الذي يحصل؟ والخوف لم يكن موجوداً!».
الخوف هذا أتى بعد عشر سنوات. فجأة هبط على سيتا خوف كبير رغم توقف القصف والقنابل. عندها عزمت على السفر إلى أميركا: «لم أندمج في أميركا. كانت قاسية. ثم إن الناس لا يمكن بناء حوار عميق معهم، لا يتكلمون إلا عن حيواناتهم الأليفة أو عائلاتهم. لا يمكن أن تفتحي معهم أي موضوع في العمق. كأنهم لا يريدون أن يتشاجروا». هذا ما دعا مانوكيان للاتجاه صوب البوذية. بدأت بالتأمّل مع راهب من سيريلانكا، لمدة 5 سنوات. كانت حينها تعلّم أيضاً في المدارس. لكن التأمل ليس راحة جسدية فحسب بالنسبة لمانوكيان، وإنما أخذته بطريقة جديّة، وكانت تريد التأمل 8 ساعات في النهار. فطلبت الذهاب إلى سريلانكا. وأرسلها معلّمها إلى هناك حيث أصبحت راهبة. «بقيت 9 أشهر ثم ذهبت إلى الهند لمدة سنة ونصف. كنت أتأمل طيلة النهار. وكانت هناك مكتبة صغيرة قرأت كل كتبها من البوذية التيرافادية. ثم تعرفت إلى راهب يود تعلُّم الإنكليزية. فقلت له أسألك بالإنكليزية وتجيبني بالإنكليزية عن البوذية التيبيتية (وهي مكملة التيرافادا) هكذا أتعلم أنا البوذية-التيبيتية وأنت تتعلم الإنكليزية. وهذا ما حصل».

انقطاع ثم عودة
«بغير هذا الحبّ لا تكن» ـ جلال الدين الرومي
كانت مانوكيان تبحث حينها عن البوذية-التيبيتية. لكنها في الوقت عينه أرادت أن تزور والدها في لوس أنجليس. حين دق أحدهم الباب ودخل سائلاً: عرفت أن هناك بوذية-أرمنية هنا وهذا مستحيل! أتيت لأتعرف إليكِ. قال لها، ثم أردف: هنا رينبوتشيه (صفة تعطى للمعلم عظيم الشأن لدى البوذيين التيبيتيين) فلِمَ تريدين أن تعودي إلى الهند؟ تعالي أعرّفك إليه. وهذا ما حصل. تقول مانوكيان: «كنت محظوظة للغاية أنني تعرفت إليه. فهو من أفضل المعلمين /الرينبوتشيه ومن أهم الذين يمكن أن يلتقيهم أحد. فبقيت في لوس أنجليس. في المركز الجبليّ حيث الأشجار والطبيعة. لكنني عدت لأهتم بوالدي أيضاً». من الجدير ذكره هنا أن مانوكيان بقيت ترسم إلى حين ذهابها إلى سيريلانكا. وقد كانت لها معارض عدة في أميركا وغيرها، وشاركت في معارض جماعية في متاحف دولية. لكن مع بداية طريق التأمّل في سيريلانكا ثم الهند ثم لوس أنجليس، كان يستحيل أن ترسم. تقول لنا: «كان عليّ أن أتعلم كل شيء من جديد. يعني يجب أن أقرأ الكتب طيلة الوقت وأدرس وأتمرّن ساعات النهار. ولديّ الكثير من الأمور التي يجب أن أتعلّمها، ونفسيتي تتغير وكذلك تفكيري. فكيف لي أن أرسم؟ لذا لم أرسم لحوالى 11 سنة! منعت نفسي من الرسم كمن يُقلع عن التدخين ولا يريد أن يرى مُدخّناً أمامه، كي لا يقع فيها من جديد». بعد فترة انقطاع طويلة، صارت ترى في المنام أن صديقاً لها يرسم، لكنها كانت لوحاتها. «أعرفها جيداً. لوحاتي، لكنه هو من يرسمها. هكذا عرفت أنني أصبحت جاهزة للعودة إلى الرسم». الغربة التي أحاطت بها لوس أنجليس قلبَ مانوكيان، جعلتها تتّجه في الناحية التقنية نحو المواد العُضوية: «بعد كل الموت الذي رأيناه، أصبحت أريد حليباً، خبزاً.. دماً.. ماءً. ربما كي أشفي نفسي. فرغم قساوة الحرب، إلا أن قساوة لوس أنجليس كانت أمرّ. لذلك لجأتُ إلى الطبيعة». هكذا تغيّرت المواد تدريجاً مع تغيّر المكان والانتقال، ولكن الملاحظ أن الألوان وضربة الريشة هي نفسها. ولو أنها تتماشى مع تلك الألوان التي صاغت فيها مانوكيان لوحات الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن وظيفة اللون عينه قد انقلبت في معناها هنا. وقد عاد الشكل العاموديّ للظهور مشيراً إلى حالة التأمل التصاعدية، خاصة في مجموعة الصخور. ولاحقاً أتت مجموعة الوردة، بكامل حضورها كأحدث النماذج من الأعمال. فالفنانة الطليعية المعاصرة، تتفاعل مع الواقع، تفتش مع جيلها والجيل الحالي عن حلولهم البصرية على المساحة المسطحة وخارجها، لكنها تعلّق: «ليتني أعود من الأول! مع جيلكم. هذا الجيل يعجبني أكثر من الجيل الذي كان معي!».

* «سيتا مانوكيان: أعمال حديثة»: من 18 نيسان (أبريل) حتى 17 أيار (مايو) ــــ صالة Tufenkian (لوس أنجليس) ـ tufenkianfinearts.com