لأنه متورط من دون إرادته في الحكايات، عليك أن تتأكد أنه سيورّطك معه. على الأرجح سيرغمك على مواصلة القراءة، ستقرأ كآلة، وكحزمة مشاعر مجردة بلا جسد في الوقت عينه. ستقرأ لترصد مصر ربما من دون أن تزورها، وتقتحم نفسيات شخصياته، حتى أعمق نقطة في ذواتهم، هو يعرف تلك الدروب جيداً.
مكاوي سعيد (1955) الذي يناديه المقربون بـ «ميكي»، قد تلتقيه مصادفة في أي من شوارع منطقة وسط البلد في القاهرة، وبالتحديد بالقرب من مقهى «زهرة البستان». رصد سعيد في نفسه ميله للكتابة والأدب في مرحلة مبكّرة: "بدأت ككّتاب جيلي بكتابة الخواطر بعدما انجذبت لروايات نجيب محفوظ والأشعار الرومانسية. كان ذلك في نهاية المرحلة الإعدادية وأثناء دراستي الثانوية. والخواطر هي أشبه بما يكتبه الشباب الآن ويتحمس لهم الأصدقاء مما يوهمهم باكتمال موهبتهم، فيسعون إلى النشر وهذا شيء في منتهى الخطورة سيعترض دائماً مسيرتهم».
نشر سعيد كتابه الأول وهو في منتصف عقده الثالث. كانت المجموعة القصصية "الركض وراء الضوء"، التي لاقت حفاوة نقدية. لكن كشأن البدايات، اختار الكاتب المصري أن ينصرف قليلاً عن الوسط الأدبي والفعل الأدبي نفسه لصالح هموم الحياة. وتزامن ذلك مع رحيل من يعتبره مكاوي بمثابة الأب الروحي، وهو الروائي الراحل يحيى الطاهر عبدلله (1938-1981)، ما ضاعف الهوة بين الكاتب الواعد – حينها - والدوائر الأدبية. إلا أنه عاد عام 1985 وكتب روايته الأولى "فئران السفينة" التي أرّخت جمالياً لحراك الطلاب في السبعينات. إلا أنها ظلت كمخطوطة حبيسة لدى الجهة الحكومية المسؤولة عن النشر.
يفرّق سعيد بين الكتابة والقراءة كعنصرين مرتبطين بالفعل الإبداعي، يمارس الأول بحذر ومهابة، بينما يقدم على الآخر بشكل يكاد يضاهي الإدمان. يوضح: «علاقتي بالكتابة علاقة محبة ومتعة، فهي تدفعني إلى القراءة التي أجد فيها لذتي، والقراءة بالنسبة لي أهم من الكتابة لأنها تجعلني في حالة متعة متصلة بعكس الكتابة التي تلقي بك بين لجج المعاناة والتذكر القاسي وإجهاد العقل في بناء عالمك ووصف شخوصه. كما أن القراءة اختيار حر بعكس الكتابة حيث تكون أحياناً مدفوعاً تجاهها بفعل التكسّب أو المنافسة أو لأنك لا تكتب منذ فترة ويلاحقك القارئ والناشر. لذا أنا مقل جداً في الكتابة بعكس أقراني لأني أحبها وأحب قارئي الذي يدفع أموالاً منتقصاً من ضرورياته كي يقتني كتابي وهذا ما يدور في عقلي قبل الشروع في الكتابة».
الأوضاع السياسية الحالية بمثابة حافز لتطوير مسار السرد العربي (م. س)

قبل أشهر، أصدر سعيد روايته «أن تحبك جيهان» عن «الدار المصرية اللبنانية» قبل أن تصدر أيضاً الطبعة الثانية منها. يفسر الإقبال على شراء «أن تحبك جيهان»: "نظراً إلى حجم الرواية الكبير، رأى الناشر أن يضاعف عدد نسخ الطبعة الأولى حتى يقل سعرها وكان مصيباً في هذا، ونفدت الرواية بعد 5 أسابيع من صدورها، وها هي الطبعة الثانية على وشك النفاد. وهذا يدل على أن قراء الأدب موجودون ويتابعون الإصدرات، ولست مع من يقول إن «جيهان» زاحمت أدب الـ «بيست سيلر» وأدب الجاسوسية والرعب، لأن هذا نوع من الأدب معروف في الغرب ويجتذب القراء حديثي السن ليحببهم في القراءة. وهذه مهمة عظيمة، لكن يا ليتنا كلما أخذنا شيئاً من الغرب نأخذه بتمامه، فهناك مثلاً قوائم لـ «البيست سيلر»، خاصة في هذا النوع من الأدب وقوائم أخرى للأدب الرصين كما يطلقون عليه، لأن معياره هنا معيار القيمة لا التشويق، لكننا للأسف نخلط كل شيء فيحدث مثل هذا اللبس».
جيهان العرابي، أحمد الضوي، ريم مطر، ثلاث شخصيات يتفرق دم الحكاية بينها. كيف استطاع الكاتب أن يتماهى مع كل منها ويتقمصها ليصيغها على الورق، خاصة أنّ الرواية لا تحتوي على عقدة أو حدث مركزي، بل هي أشبه بدفقات متعاقبة من السرد؟ وعليه؛ فإن إغواء ذلك الحكي يكون في هذه الحالة عنصر جذب للقارئ أكثر من ألاعيب الدراما. يوضح الكاتب الفائز بجائزة «ساويرس 2014»: «أنا في حالة مراقبة للآخرين طوال الوقت سواء في المقاهي أو في المنتديات وأسجل في دفاتر صغيرة كل ما يدهشني ويلفت نظري وهذا قليل في حقيقة الأمر. ثم استعين بالبحوث وكتب علم النفس في حال كنت في صدد الكتابة عن شخصيات معطوبة نفسياً أو مضطربة. وبالنسبة إلى الشخصيات الأنثوية التي تتحرك في روياتي، فأنا والحمد لله لي صداقات كثيرة مع نساء من مختلف المشارب والأذواق والأعمار. لذا لا يعجزني الكتابة عن نمط منهن». ويضيف: «الرواية رواية أصوات من وجهة نظر 3 شخصيات، كل شخصية لها عقدتها ونقطتها المركزية التي تتباين مع الشخصيات الأخرى، بالإضافة طبعاً إلى أنّ الرواية الحديثة كما قلتَ تتجاوز العقدة الدرامية الفجة أو الأرسطية لكنها لا تنفيها تماماً، فهي غير منظورة أحياناً أو باهتة، لأن فكرة الصراع السرمدي للإنسان مع واقعه هي العقدة الأصيلة لحياتنا بأسرها. وهكذا رواية "أن تحبك جيهان" تتناول تفتت وانهيار الطبقة الوسطى في المجتمع المصري في نهاية عصر مبارك من خلال زمنها الذي يدور في العام السابق للثورة، لأبطال مهمشين لا ثائرين»
لم تكن جائزة "ساويرس" للقصة القصيرة الوحيدة في رصيد سعيد، إذ سبق أن وصلت روايته "تغريدة البجعة" إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية في دورتها الأولى. عن الجوائز، يقول: "اعتبر دائماً أنّ الجوائز ليست معيار قيمة لأنها خاضعة لأمور شتى تشمل ذائقة المحكّمين وفهمهم للأعمال الأدبية ونزاهتهم وقدرتهم على مقاومة الضغوط. لذا لا أهتم بها إلا من جوانبها المادية التي تساعد الأديب في حياته الدنيوية. أعتب على من يشاركون، وعندما يُستبعدون يهاجمون تلك الجوائز التي كانوا يحفون جرياً وراءها. وأهمس في أذنهم: من ارتضى السباق لا بد أن يرضى بنتائجه لأن الانتحاب والمهاجمة تدلل على أن عملك ضعيف وكانت هذه هي فرصتك الأخيرة. من يثق في عمله لا يهتم إلا بما قدمه وبالقادم من أعمال». وعن اختياره في أكثر من مناسبة كعضو لجنة تحكيم، يعلّق: «جعلتنى هذه الجوائز ألتمس العذر للكتّاب والمحكمين، فأحياناً كثيرة كانت تقابلنا أعمال جيدة جداً والفروق ضئيلة فيما بينها، ونصوّت مدافعين عن وجهة نظرنا حتى نستقر على الفائز. وفي هذه الأحوال تُحرم أعمال أخرى جميلة لكن ليست لها حظ».
وأخيراً، يؤكد أن الرواية العربية تعيش أوج ازدهارها في العصر الراهن، فالأوضاع السياسية الحالية بمثابة حافز لتطوير مسار السرد العربي. يعلّق: «المشهد السردي المصري والعربي في أوجه الآن، فقد انضم إلى الكتّاب الراسخين ندماء جدد، ومواهب عفية، وبتنا نقرأ أعمالاً واعدة في أغلب ربوع الوطن العربي، والأفق مملوء بآمال باتساع رقعة الإبداع المتفوق، بعكس الأحوال السياسية المتردية في الوطن العربي كله، وبما أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، فالقادم بالنسبة للأدب العربي عظيم جداً، وربنا يستر على تراب هذا الوطن الكبير".