داخل فضاء «أشكال ألوان» الشاسع والرمادي، غرفة خشبية صغيرة لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار، لكنّها حوت أسطورة الفن الحديث كلها: إنّها «صالون فلوروس» الذي شاهدناه ضمن معرض «بورتريهات وصلوات» الذي اختُتم أمس. جهّزت الغرفة لتبدو كأنها خارجة من أوائل القرن العشرين، وتحديداً من باريس ٢٧ شارع فلوروس. على الجدران، وزعت لوحات لأهم رسامي الفن الحديث، لكنّها نسخ عن اللوحات الأصلية، كما هي حال الصالون. هذا ليس مهماً على أي حال. المهم هو قصة «صالون فلوروس»، أحد أهم التجمّعات الفنية التي عرفها التاريخ.
بدأت القصة عام ١٩٠٢، حين هاجر ليو شتاين من أميركا إلى لندن، ففرنسا، ولحقت به أخته جيرترود، ليسكنا معاً في شقة في ٢٧ شارع فلوروس. لدى وصوله إلى باريس، كان ليو يطمح لأن يصبح رساماً، لكنه سرعان ما اكتشف أنه لا يصلح لذلك، وقرر شراء اللوحات كلما سنحت له الفرصة. هكذا، شكّل أول مجموعة مؤلفة من لوحات لسيزان، ورينوار، ومانيه وديغا. كذلك، بدأت جيرترود أيضاً بشراء اللوحات، لكن الخطوة الأهم كانت عام ١٩٠٥، حين اكتشف ليو الإسباني بابلو بيكاسو واشترى له لوحتين. خلال معرض «صالون الخريف» في العام نفسه، تعرّض الفنانون الجدد لنقد قاس بسبب أعمالهم، وأطلق عليهم اسم «الوحشيون» Les Fauves، لكن ليو وجيرترود كانا الوحيدين اللذين قررا شراء أعمال أحد أهم فناني الوحشية: هنري ماتيس. هكذا، دعما بيكاسو وماتيس حين لم يرغب أحد بهما. خلال الأعوام التالية، كانت اللوحات تتكدس في صالون الأخوين، وما لبث أن ذاع صيتهما، فأصبح الجميع يقصدون صالون شتاين لتفقد المجموعة. هكذا ولد «صالون ٢٧ شارع فلوروس». لكن زوار الصالون لم يقتصروا فقط على الفضوليين، بل الأدباء والمفكرون. وإن كان بيكاسو قد تعرّف شخصياً إلى ماتيس عند شتاين، إلا أن هيمينغواي كان أحد المقربين من العائلة أيضاً. قبل اندلاع الحرب العالمية في ١٩١٤، قرر ليو الانفصال عن أخته والاستقرار بين إيطاليا والولايات المتحدة لأسباب عديدة، أبرزها خلاف الاثنين حول مرحلة بيكاسو الجديدة حينها: التكعيبية التي لم تعجب ليو ذا الذوق الكلاسيكي. هكذا رحل ليو، تاركاً لأخته اللوحات الوحشية والتكعيبية ليأخذ معه الانطباعية. الثنائي شتاين كان أول من عرض لوحات لسيزان، وبيكاسو وماتيس حين أدارت أوروبا ظهرها لهؤلاء. وكان على تاريخ الفن أن ينتظر حتى 1936 كي يعرض متحف الفن الحديث في أميركا أعمال هؤلاء في معرض «التكعيبية والفن التجريدي». ذلك المعرض أسس لقصة تاريخ الفن الحديث الذي تبنته أميركا قبل أن تحذو أوروبا حذوها متأخرةً سنوات. في «أشكال ألوان»، شاهدنا نسخاً غير أصلية للوحات لبيكاسو وسيزان وماتيس، لا قيمة فعلية لها، لكن من هناك كتب تاريخ الفن الحديث.