بقي مكاوي سعيد في صمت روائي حوالي سبع سنوات ليخرج لنا بـ «أن تُحبّك جيهان» (المصرية اللبنانية). كأنها مسافة زمنية كافية ليترك خلالها الآثار التي صنعتها فيه «تغريدة البجعة» (2007) التي كرّسته كاتباً بنبرة سردية مختلفة نجحت في وضع نفسها في الواجهة. هكذا سنرى صاحب «مقتنيات وسط البلد» (2010) وهو يدخل منطقة جديدة بعيدة عن تلك الماضية التي وضعت النّص تحت سلطة مرجعية لسيرة ذاتية (افتراضية) على نمط الكتابة السائدة خلال السنوات العشرة الماضية. يبدو ذلك جلياً في الشخصيات الكثيرة التي حملتها رواية «أن تحبك جيهان» ذات الحجم الضخم، والعلاقات المعقدة التي ربطت بينها في وقت باتت فيه مثل هذه الأعمال لا تلقى رواجاً بين القرّاء. إلى كل ذلك، هناك رهان الكتابة الظاهرة في قالب كلاسيكي واضح على الضد من أشكال الكتابة السائدة اليوم. لعل هذا الخيار قد أتى ليناسب طبيعة الطبقة الوسطى؛ أو تلك الفئة التي ما زالت على قيد الحياة في تلك الطبقة وتقاوم للبقاء على سطح المجتمع وإن ارتدت أقنعة رفاهية مُزيفة لا تعكس حقيقة الواقع المتردّي الذي تغرق فيه. والحال هذه لم يكن لائقاً تفكيك تلك الفئة الاجتماعية عبر كتابة حديثة أو غرائبية لن تكون قادرة على توضيح الصورة القائمة لتلك الطبقة اليوم.
الحديث عن "ثورة يناير" يأتي كنهاية للسرد

سيكون مفتتح الحكي المُنتج عبر تعدد الأصوات الساردة من خلال "ريم" و"جيهان"، لكن الصوت الرئيس سيكون ظاهراً عبر أحمد الضوي الذي سيحمل على عاتقه مهمّة الربط بين الشخصيات التالية في بنية السرد. أحمد مُهندس يعمل في المقاولات ويحاول العثور على ذاته نائياً عن السياسة، ومُكتفياً ببقايا الإرث الثقافي والسيرة التي تركها له "حسام"، خاله الشيوعي الذي مات باكراً. سيحتل "شريف" المثقف والمعتقل السابق ذلك الفراغ المتروك بموت الخال حين يقيم في شقة «حسام» التي تلاصق شقة «أحمد». ولهذا المهندس صديق يدعى "عماد"، ضابط شرطة لا يتورع عن القيام بأي فعل قبيح، فلا سلطة مُحترمة تحكمه. ستأتي "ريم" لتحتل الترتيب الثاني في الظهور ضمن علاقة شائكة نفسياً وجسدياً بأحمد. هي من عائلة ثرية، وزوجة سابقة لخبير مسرحي أسند إليها أدواراً تافهة تشبه حياتها وتنجب طفلة مُصابة بمرض التوحد لا تتورع عن تعليقها من البلكون كي تجبرها على التوقف عن إزعاج صديقها. يحكمها مزاجها المتقلّب حيث تبدو لا مبالية، تمارس الجنس بصوت مرتفع في مبنى سكني مزدحم. تضع حرباء في غرفتها وحين تموت بعدما دهسها أحمد، تأتي بغراب كبديل. مع ذلك، ستبدو "ريم" الشبيهة بكومة بذاءة، الشخصية الأكثر تصالحاً مع ذاتها وهي تفعل ما تريد.
أمّا "جيهان"، فيكون حضورها عبر تفصيل يُظهر دراستها للسينما التي تتركها من أجل احتراف التصوير الفوتوغرافي الذي سيكون نقطة وصالها وزواجها بـ "تميم" التشكيلي المُفرط في طموحه حتى انقاد بسببه لأذواق أثرياء النفط، وسقط تالياً في مرض نفسي يقطع حلقة وصله بالحياة. نتيجة لذلك، سنرى "جيهان" كأرملة تحاول تعذيب الآخرين ووضعهم في القلق بعدما قررت وضع حاجز اسمنتي بداخلها، ما سيخلق حالة ضبابية بينها وبين الرجال المُحيطين بها من أهل الثقافة الذين لا يتوقفون عن إطلاق نظرات الاحتقار لأحمد الضوي غير الملتفت لكل هذا، مُنتظراً أن تحبّه جيهان التي تسايره لكنّها في الوقت ذاته تبحث عن رجل آخر لا تعرف ملامحه على وجه التحديد.
من كل هؤلاء وغيرهم ستظهر الحالة العامّة للطبقة الاجتماعية التي اتخذها مكاوي سعيد، لكن بمصائر مفتوحة كما فكرة الحب المتروكة بلا نهايات واضحة حيث «فناء الحب في اكتماله».
في سياق الخاتمة، يأتي الحديث عن "ثورة يناير" كنهاية للسرد باعتبارها نتيجة لمجمل الإشكاليات النفسية والوجودية التي خلقتها الحالة السياسية العامة والوضع الاجتماعي المُزري الذي كان نتيجة لها. من هنا، لا يمكن اعتبار إضافة "الثورة" كموضوع ختامي مُقحماً أو زائداً عن حاجة العمل. حالة المُعالجة "الخفيفة" لهذا الموضوع أتت لأنّ تلك "الثورة" كانت نتيجة لاشتباكات "جيهان" ورفاقها في وطن يعيش لحظات ما قبل الانهيار ولم تكن قلب الرواية من أساسها. لعل من الواجب هنا التذكير بتلك المعالجات النابهة والجريئة التي قدّمها مكاوي سعيد لموضوع "الثورة" في كتابه "كرّاسة التحرير" (2013) الذي أوضح فيه الصورة المسكوت عنها، مُشتبكاً بذكر شخصيات بأسمائها الصريحة ممن كان لها اليد الطولى في تضخيم ماكينة الفساد والإفساد وتعمل كأذرع خفية أو ظاهرة لجسد النظام السابق الذي ثار الناس عليه. هكذا، بعدما كان مكاوي سعيد يسمع دائماً، حال التعرف عليه عبارة "أنت صاحب التغريدة"، يبدو أنّه سيسمع منذ الآن عبارة أخرى، تقول "أنت صاحب جيهان".