في الواقع، لو سلّط المنتقدون عدساتهم أكثر، لوجدوا أن شريط الصوت المصاحب لأحداث المسلسل، والمنوط به خلق حالة فنية «من الزمن الجميل» (وهو الاسم السابق للمسلسل)، ينتمي بمعظمه إلى زمن منتصف الستينات، من«رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا» إلى «جبار» عبد الحليم حافظ في «معبودة الجماهير»، بعد عشر سنوات على الأقل من زمن الأحداث، بينما تعود أجواء «التياترو» الذي تعمل به الفنانة نادية (رانيا منصور) التي يقع في حبها المبتعث ناصر (مهند الحمدي) إلى حقبة الأربعينات. لكن هذا اللوم يقع ـــ إن شئنا وشاء الناقدون تطبيق الدقة التاريخية الصارمة ـــ على أحداث عمل خيالي في النهاية. وهو أمر لا يُستحب، خاصة إذا كان العمل الذي أخرجه البحريني علي العلي، غنياً بصراعات حبكته المتقاطعة، ضاجّاً بحكايات الحب والسياسة والخوف والغيرة، والأهم، مسكوناً بالرؤية الفنية التي لا تنسى خيوطها الأساسية مهما تسارعت الأحداث. وقد تسارعت كثيراً، حتى إنّ الطالب عدنان (خالد الشاعر) يترك لجنة الامتحان في الجامعة، ويذهب إلى مخفر الشرطة ثم النائب العام ليغيّر شهادته التي أدلى بها مجبراً، فتسببت في سجن زملائه، وينجح في مسعاه ويتم إطلاق الزملاء من الحبس ثم يعود قبل أن ينتهي وقت الامتحان! غير أنّ مثل هذا التسرع قد يبتلعه المشاهد راضياً، إذ يعاني في بقية المسلسلات من المطّ والتطويل إلى حدّ الموت مللاً، وقد يتجاوز عن بعض المبالغة كردّ الجميل لسرعة الإيقاع.
يرسم الحوار شكل العاصمة ورؤية «أهل الخليج» لها في ذلك الوقت
ففي الحلقة الأولى وحدها، يتم اتخاذ القرار الحكومي بإرسال الطالبات إلى القاهرة، ويدور المسلسل بنا في البيوت والظروف المختلفة للفتيات جميعاً ومحاولتهن لانتزاع موافقة الأهل، ثم سفرهن إلى القاهرة والوصول وتعرفهن إلى زملائهن الطلبة الذكور، والانتقال إلى السكن القاهري الجديد... أحداث كانت لتبتلع ربع المسلسل على الأقل على يد مخرج أو كاتب آخر، غير أن سرعة الإيقاع تلك لم تمنع من رسم الكثير من المشاهد الجميلة على مستوى الفن ومستوى الرؤية، كما في حوار يوسف (بشار الشطي) وزوجته لطيفة (مرام البلوشي) على متن الطائرة.تسأله لطيفة ــــ المبتهجة من الرحلة والمرتعبة من الطائرة ـــ عن الكلمات باللهجة المصرية، فيشرح لها: «شو يسمون الخشم؟». يجيب: «مناخير»، و«الحلق؟». يجيب: «بُق». و«الجلاسة؟» «كوباية». وهنا تسأله: «والعباية؟». يجيبها: «ما عندهم عبايات بالقاهرة، لما نوصل تشيلي عبايتك بالشنطة». تسأله مستحية: «ويمشون سفور، وأصير فرجة؟». يجيب: «لا ما يمشون سفور لكن لا يلبسون عباية، ولو لبستي العباية تصيري فرجة، لا يعرفونها!».
بهذه العبارات البسيطة يرسم الحوار شكل قاهرة الخمسينات ورؤية «أهل الخليج» لها، ويخط ـــ ربما بغير قصد ـــ رثاءً لما كانته القاهرة في تلك الأيام. فهي «المدينة» حيث لا مكان للعباءة بعد، ولا حجاب، ولا وصم مَن دونهما بالـ«سفور»، وحيث لا تستطيع الطالبات القادمات من خليج ما قبل البترول إلا الانبهار بالشوارع النظيفة، والتلفزيون، وعمالقة الموسيقى ونجوم السينما الأجمل من أهل هوليوود، بل بمجرد وجود «البلكونة» والمطر، حيث ينلن نزلة البرد الأولى احتفالاً بالماء المنهمر من السماء، ومعه ينهمر الحب أيضاً من الطابق العلوي حيث يسكن «ضابط» بما يعنيه ذلك في زمن «الضباط الأحرار»، وحيث تظلل الجميع قبة جامعة القاهرة التي تشهد على حياتهن الجديدة. حياة سرعان ما يتلوّن نقاؤها بزخم وجبروت المدينة التي تمنح الفرح والدموع بالقدر نفسه.
* «دفعة القاهرة»: 22:00 بتوقيت بيروت على mbc1