النهر ثار، وأشجار النخيل ما عادت قادرة على الصمت، وجبال التاكا أنهكها القمع فضجت. أما ما تبقى من أشجار الهشاب التي لم تحرقها الحرب، فنزفت هتافها للحرية.ثلاثون عاماً كانت. ثلاثون عاماً والبلاد التي كانت كبيرة تئن تحت حكم الطاغية.
ثلاثون عاماً والسودانيون يحفظون الحكايات. يتداولونها بينهم. حين تلتقي مسافراً عربياً في مطار فيسألك «كيف البشير؟ يبدو رجلاً وطنياً». تعرف أنّه لا يردد إلا ما يصله من صور عابرة من إعلام لا يعرف كيف هو البشير.
«سيدة الشمس» للمصوّر السوداني فؤاد حمزة تبن (من أرشيف «استديو المواهب»، السودان ــ 1975)

ثلاثون عاماً والسودانيون يحكون مأساتهم للعالم. للعابرين في المطارات، والسائلين في سيارات الأجرة، وباعة السوبرماركت، والصحافيين الفضوليين لمعرفة شيء عن البلد المعزول. يهزون رؤوسهم ولا يصدقون.
سائلي في مطار عربي ونحن ننتظر الترانزيت أصرّ أن البشير بطل. كانت المعادلة عنده بسيطة جداً. «البشير تقف ضده أمريكا». حكيت له، كما يحكي كل السودانيين، ما فعلته بنا سنوات البشير. لكنه هز رأسه وأكد «المهم أنه ضد أمريكا».
لكننا لسنا أمريكا! لماذا يشتم أمريكا ويقتلنا؟ لماذا يشتم أمريكا ويعتقلنا؟ لماذا يشتم أمريكا ويعذبنا؟ لماذا يشتم أمريكا ويسرقنا؟ هل نبدو من سكان بنسلفانيا؟
ثلاثون عاماً ولم يصدق حكاياتنا إلا قلة في كل العالم.
ولهم عذرهم. فحكاياتنا عجيبة. أغرب من جموح الخيال.
من سيصدقك حين تحكي عن اجتماع حكومي رسمي قُدم فيه طلب للاستعانة بالجن المسلم لاستخراج ثروات باطن الأرض؟
- لا يمكن أن يكون ذلك حقيقياً!
- لكنه حدث.
- عجيب! لكن المهم أنه ضد أمريكا.
حين انهار جسر لم تذهب الريح بعد بصوت البشير، وهو يهتف مفتتحاً له «سنرد على الأعداء بالتنمية... بمزيد من السدود والطرق والجسور».
لكن الجسر الأخير كان رداً قصيراً لم يبلغ الأعداء. بدأ في الانهيار. فصدر التصريح الرسمي يبرئ الفساد من تهمة تهاوي الجسر. واتهمت الفئران في بيان أنها من أكلت الأساس. هل سنرفض تصديق ذلك؟ ألم يكن فأراً ما هدم سد مأرب؟ فها هي الفئران تأكل جسراً في الخرطوم.
دوماً حكاياتنا الحكومية مرتبطة بالتراث.
ودوماً نبدو مفرطين في الخيال حين نحكيها.
في ليلة ما، دخلت طائرة مجهولة، عرفنا فيما بعد أنها إسرائيلية، حدود البلاد وقصفت قافلة مهربي سلاح وذهبت موفورة الأمان.
ووزير الدفاع خرج مسرعاً ليطمئن المواطنين أن حدودنا محمية. أما الطائرة المغيرة فهي جبانة كعهد الأعداء. «جاءت ليلاً» كما قال الوزير «وكانت أضواؤها مطفاة، وكنا في صلاة العشاء. لذلك لم يتصدّ لها أحد».
وخرجت المظاهرات المؤيدة للنظام، وتحدت إسرائيل الجبانة، التي تأتي لتقصف بالطائرات ليلاً. وقال مسؤول كبير: «لو كان الإسرائيليون شجعاناً لأتونا نهاراً وقاتلونا على الأرض».
لكنهم لم يأتوا، فعرفنا أنهم جبناء كما قال المسؤول.
بدباباتهم حاصروا الفن والرواية والقصيد. وبقوانينهم محوا الجمال عنوة حتى من شوارعنا


ثلاثون عاماً وهذه حياتنا.
ثلاثون عاماً ونساء السودان يتم جلدهن بتهمة ارتداء «بنطلون»، أو رفض تحرش رجل شرطة، أو لأن المتهمة ممتلئة الجسم على ثيابها التي تبرز شيئاً من تفاصيلها.
ثلاثون عاماً ونحن نتعجّب من المحاربة المنظمة للجمال.
بدباباتهم حاصروا الفن والرواية والقصيد. وبقوانينهم محوا الجمال عنوة حتى من شوارعنا.
في تحقيق أُجري معي بتهمة نشر الفجور لكتابة قصة، قال لي أحد المحققين: «أنت شاب موهوب. لكن قلمك يحتاج إلى توجيه. دورنا أن نوجهك حتى لا تصبح مثل الطيب صالح»
سألته:
ولماذا لا أصبح مثل الطيب صالح؟
قالي لي إنه عميل لليهود، ترجموا له ليسيئوا لسمعة السودان والإسلام.
ثلاثون عاماً من القبح.
حتى أشجار الخرطوم لم تسلم منهم. حتى بداية التسعينيات، كان نهار الخرطوم القائظ ينكسر بظلال أشجار اللبخ التي تغطي الشوارع منذ نحو مئة عام. وفجأة تقرر قطعها جميعاً. نريد الخرطوم عارية! تركوا شوارعها نهباً للحر والغبار. وبعد سنوات، استورد بعض الحكوميين مجموعة من أشجار النخيل الملكي وزرعها في وسط الشوارع. كانت أعمدة بيضاء لا تقي حراً ولا تملك جمال اللبخ بجزعه الذي غضنته العقود الطويلة. يبس النخيل الملكي في مكانه من دون أن يلاحظه أحد.
لذلك لما ثار الشارع، لما هبت المدن كلها تئن وتضج، شهرت سلاح جمالها في وجه قبح النظام.
ثلاثون عاماً من القبح. حاربتها الشوارع بالغناء للوطن وللمحبوبة. بالأنثى الفخورة بأنوثتها وتقف متحدية محاولات وأدها بتهمة الحسن المغري للمهووسين. برسومات الغرافيتي. بالصور الساخرة والنكتة اللاذعة، والهتافات المنغمة الذكية.
وعادت شوارع الخرطوم تمتلئ بالحكايات القديمة.
الحكايات عن مجتمع متعدد، يقبل الآخر، ويحتفي بالجمال.
ثلاثون عاماً، بعدها خرج أقباط السودان لأول مرة يتحدون مع مسلمي البلاد ويقولون هذه بلادنا جميعاً.
أما الجالية الهندية الكبيرة التي تعيش في السودان منذ أكثر من سبعين عاماً، فتلك هي المرة الأولى التي نراهم فيها يخرجون إلى الشوارع هاتفين.
عدنا إلى الحكايات القديمة. عن سودان يحتفي بحقيقته. عن سودان يحب الغناء والرقص. يضحك للنكتة ولا يتلفت خوفاً من «بيوت الأشباح».
بعد ثلاثين عاماً من حكايات القمع، بدأنا نحكي حكاياتنا القديمة مرة أخرى. للعابرين في المطارات، والسائلين في سيارات الأجرة، وباعة السوبرماركت، والصحافيين الفضوليين لمعرفة شيء عن البلد المعزول.
حكاياتنا هذه المرة لا تشكو الغبن. لكنها تتملأ بالحنين لسودان سرقوه منا. وتفيض بآمال لسودان جديد سنبنيه.
* روائي سوداني يقيم في مصر