السودان، بلد الأساطير، بلد التعدد، عجينة عجيبة «وثنية ومسيحية وصوفية» حسب تعبير الفنان السوداني حسين جمعان: «ماعون تختلط فيه العناصر: الروح الإسلامية العربية المتأصلة في خطوط كتبه المورّقة ومساحات الألوان الزاهية الساخنة المجردة ورايات حلقات الذكر، والنمط الإفريقي بنحوته الخشبية وطبوله وغاياته ومعتقدات قبائله، والعهد المسيحي بمفرداته... كل هذه الروافد استوعبها الماعون وصهرها فى شكل من الأشكال الجديدة». كان وصول الإسلاميين إلى السلطة برداء عسكري على مدى ثلاثين عاماً، إيذاناً بقتل هذا التعدد، تلك الميزة التي وسمت ذلك المجتمع القارئ، وهو ما تنبأ به مبكراً الروائي السوداني الراحل الطيب صالح عندما كتب مقالته الشهيرة: «من أين يأتي هؤلاء؟».هؤلاء الذين حجبوا سماء السودان الصافية بالأكاذيب، أصحاب الكلام الميت في بلد حي، هؤلاء تحولت الخرطوم على أيديهم من مدينة جميلة إلى «طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خُبز، لا سُكّر، لا بنزين، لا دواء. الأمن مستتب كما يهدأ الموتى» على حد تعبير صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال».
كان النظام الذي عرف بـ «الإنقاذ» في حاجة للرحيل من أجل إنقاذ ما تبقى في البلد الجميل... ضد كل هذا ثار الشعب، الصامد والساكت لسنوات طويلة، بعدما قدّم كل ما يستطيع: آلاف من اللاجئين، وآلاف من المساجين، والضحايا... وبلد ملكوم تم تقسيمه عنوةً. لكن هل ستنجح الثورة في السودان؟ أم سيكون مصيرها مثل مصير شقيقاتها في العالم العربي الملكوم؟
بالتأكيد، ليس بإمكاننا الإجابة أو التوقع، بخاصة مع تكالب قوى اليمين في المنطقة لقتل الثورة، كما أن الغرب قد لا يسمح بأن تكون هناك بقعة مضيئة في المنطقة تعرف ديمقراطية حقيقية، فرهان الغرب الدائم أن الكيان الصهيوني ينبغي أن يكون هو «البقعة المضيئة في المنطقة».
لكن ثمة شواهد عديدة قد تشي بالأمل. صمود الشعب لشهور متواصلة، هاتفاً من أجل الحرية والعدالة، خبرة شعوب الثورات الفاشلة، وقد خبرت جيداً ألعاب الثورة المضادة، وأخيراً معرفة الشعب نفسه بالثورات، إذ مرت على السودان قبلاً ثورات عديدة مجهضة بالطبع، وأخيراً الثمن الفادح الذي دفعه الشعب حتى وصل إلى ما هو عليه، ولم يبق ما يخسره. لكن سواء نجحت الثورة وحققت ما قامت من أجله، أو بعضه، أو فشلت، فإن أي سلطة سوف تعيد حساباتها مرات ومرات، واضعة صوت الشعب في معادل الحكم.
هنا شهادات من داخل السودان، ومن خارجه حول ما جرى وما يجري، أسئلة حول المستقبل، وما يحمله من مفاجآت. شهادات من روائيين وكتّاب تحمل تحية لشعب السودان الثائر دائماً وأبداً.