يكتسب المسلسل التاريخي أهميّته من احترافية الصنعة، عبر تحويل المنظومة الأرشيفية إلى مقترح حكائي ربما يسمح بالتخيّل فيه، من دون أن يلعب هذا المخيال بالسياق، لصالح جهة على حساب أخرى. وإذا كان الاتفاق شبه مطلق على أن التاريخ واسع لا يمكن الجزم فيه، بل تختلف المراجع عنه بطريقة تناقضية حادة في بعض الأحيان، فإنّ الهم في الدراما التاريخية غالباً سيذهب أبعد من الشرط التلفزيوني الاستهلاكي، ووظيفتي المتعة والترفيه الأساسيتين. المطلوب أن يصل إلى مطرح أعمق، يتطلب إعادة قراءة المراحل الزمنية السابقة، بأعلى قدر من الواقعية، وطرح الأسئلة ولو بشكل إسقاطي، ثم محاولة إعادة تدوير تلك المراحل التاريخية بلغة الصورة، وبأعلى سوية ممكنة من الانفتاح، عساها تترك فرصة واسعة للتأويل والاستلهام، والبناء من دون الاحتكام للتابوهات الدينية والسياسية التي تحاصر غالبية الفرضيات التاريخية والتراثية في منطقتنا.تبدو المهمّة في غاية الصعوبة، ولا بد من أن يقفز الشرط الفني فوق مكوّنات مطبخ الإنتاج التلفزيوني، المسكون بهواجس تجارية وربحيّة في الدرجة الأولى. القضيّة أكثر تعقيداً من أن تحملها «قناة أبو ظبي» مثلاً، بخاصة عندما يتعلق الأمر بعلامة فارقة تقارب سيرة الصوفي الإشكالي الشهير الحلاج. «العاشق: صراع الجواري» (كتابة أحمد المغربي - إنتاج تلفزيون «أبو ظبي» والمنتج المنفذ شركة I See Media للمنتجَين ياسر فهمي وإياد الخزوز) عمل يحتاج إلى بحث مطوّل، خصوصاً أنّ أهم الدراسات التي صدرت عنه ليست عربية، كما أنّه يُلزم صنّاعه بالوقوف عند خيارات صائبة في بناء الفريق، منذ اللحظة الأولى، لتواكب هذا الفريق ميزانيات كبرى، وتُترك له فسحة الشغل بروية لمحاولة سبك مادة مُبهرة بصرياً أوّلاً، تتمتع بالجاذبية اللغوية.

منذر رياحنة في العمل

لكن ما حصل لم يكن مقارباً لذلك! منذ البداية، تعاقد إياد الخزوز مع السيناريست السوري خلدون قتلان لكتابة النص قبل بضعة أشهر من رمضان. بعدما كتب قتلان ثلثي المسلسل، فسخ الاتفاق معه، وأحال المهمة للسيناريست الأردني أحمد المغربي لتدور في الشام كاميرا مخرج أردني اسمه شعلان الدبّاس، صوّر قرابة أسبوع ثم أنهيت مهمّته لسوء ما أنجزه، واستقدم على جناح السرعة المخرج السوري علي علي صاحب الحضور الواسع في كل الأعمال التاريخية المكرسة التي قدّمها المخرج حاتم علي. وافق مخرج «طوق الياسمين» (2008 - كتابة زهير قنوع) على أن يكون المنقذ وفق شرط غير صحي وسباق «رالي» مع الزمن، ما أجبره على فتح كاميرا ثانية للمخرج المنفّذ رامي ديّوب، والاستمرار في التصوير حتى مساء الأحد الماضي. كلّ ذلك وسط حالة هلع تسيّدت يوميات الجهات المنتجة، وخوف جاثم على صدورهم بسبب انطلاق حملات هجومية على السوشال ميديا الخليجية، اتّهمت العمل سلفاً بأنه يرّوج لـ «ساحر» و«زنديق»؟! هكذا، لم يدرج المسلسل على خطّة العرض الرمضاني، إلا قبل رؤية الهلال بساعات قليلة، وباسم جديد هو «العاشق- صراع الجواري» من دون أن تجرؤ قنوات «أبو ظبي» على عرضه. هكذا، فضّلت رميه على هواء محطتين هما «روتانا دراما» و«تين» المصرية، مع إغلاق أبواب مواقع التصوير بشكل محكم في وجه عدسات الإعلام، إلا وفق ما تمليه «أبوظبي»، وبعد بدء عرض العمل، على أن تكون التقارير حصراً لصالح الجهات التي تعرضه!
على هذه الحالة، ستبدو أي محاكمة نقدية للمسلسل ظالمةً، طالما أن القاعدة الحياتية الناجعة تقول بأنّه بين قمة النجاح وهوّة الفشل لحظة تردد! وقد سطت على المسلسل أسابيع طويلة ليس من التردّد فحسب، بل من الخشية والحذر والخوف. مع ذلك، لا ضير من مكاشفة مفصلية لغالبية ما عُرض من حلقات حتّى الآن.
ينطلق المسلسل من أحداث اندلعت عام 265 هجرية في عصر الخلافة العباسية الثانية، وما شهدته تلك الفترة من اضطراب في تداول السلطة، ما أثّر على الحياة الاجتماعية والسياسية. حينها، بزغ نجم السيدة «شغب» (تلعب الدور الممثلة التونسية فاطمة ناصر) وهي جارية من جواري الخليفة المعتضد بالله وأم ولده جعفر. وقد تمكنت «شغب» بدهائها وقوة شخصيتها وفهمها لخفايا السياسة والحكم، من خوض صراعات قاسية في سبيل تثبيت حكم ولدها جعفر (أنس طيارة) بعد وفاة الخليفة المكتفي بالله (زامل الزامل). تمهّد للسرد الدرامي الإضاءة على مرحلة النزاع مع أنصار عبد الله بن المعتز وتعليق مشنقته مع رجلين من أخطر أعوانه. عشر حلقات تمرّ من المسلسل من دون أن نلمح «أبو المغيث الحلّاج» (يؤدي الشخصية ببراعة النجم غسّان مسعود) إلا في بضعة مشاهد، أوّلها مصاب بخلل تقني بسبب تركيب صوت مسعود على المشهد التمثيلي، ثم يبلغ الصراع اللغوي ذروته لدى مناظرة «صاحب الطواسين» القاضي أبو بكر محمد بن داوود، واستناد الأوّل أثناء رحلة حجّه لمنطقه الصوفي في مناجاة الخالق والرد على محدّثه. بعدها، تترصده الكاميرا وهو يختلي بنفسه، يسرف معظم وقته في الصلاة والمناجاة، أو يردّد أذكاره لعل أكثرها أهمية وصدقاً في الأداء ما يظهر قبل القبض عليه بتهمة التستر على علي بن عيسى. عندما تداهم الشرطة بيته، يكون قد اختلى بنفسه مردداً كلماته الأثيرة: «يا من أسكرني بحبّه، وحيّرني في ميادين قربه، أنت المنفرد بالقدم، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضور بالعلم لا بالانتقال، وغيبك بالاحتجاب لا بالارتحال، لا شيء فوقك فيظلّلك، ولا شيء تحتك فيقلّك، ولا أمامك شيء فيجدك، ولا وراءك شيء فيدركك... أسألك بحرمة هذه الرتب المقبولة، والمراتب المقبولة، ألا تردّني إليّ بعد أن اختطفتني مني، وألا تريني نفسي بعد أن حجبتها عنّي، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك!». يعود فيجد الشرطة في انتظاره، من دون أن يخلّصه سوى أتباعه الذين يقيمون حلقة ذكر في دار الشرطة، ثم محاولته إذلال نفسه بكنس بيته كي لا يشعر بالكبر، ثم تعليمه لابنه بعد أن يطلب الأخير بأن يكون مريده، يليها اصطدامه مع الشيخ الجنيد (نجاح سفكوني) في حلقة علمه.
هجوم اشتعل على السوشال ميديا الخليجية، اتّهم العمل سلفاً بأنه يرّوج لـ «ساحر» و«زنديق»!


بعيداً عن تعريف مشاهدها بمعنى الصوفية مثلاً، أو كيف وصل الحلّاج لما وصل إليه، تنحو الحكاية باتجاه الإمعان في طريقة جعفر الانفعالية في الحكم ورغبته في توزيع الأموال وإصدار العفو وإفراطه في الشرب ثم قناعته ـ بناء على نصيحة الطبيب الرازي ـ بالتوقف عن السكر وإصدار أمر بغلق الحوانيت، إلى جانب الإسهاب في دخول كواليس «بيت القيان» أو مخدع الجواري الذي يديره «النطل» (منذر رياحنة) رمز جيل النخاسين الذي أفرزه البذخ والثراء الفاحش في الدولة العباسية الثانية، فأصبح هناك من يعمل على تطوير مهنة النخاسة ونقل تجارة الرق إلى عالم أكثر سحراً، على يدي «النطل» وبمساعدة تليد (مجد مشرف) الذي فقد ذكورته، فاستأمنه النخّاس الأكبر على رزقه. هناك تصنع الجواري ليكنّ قادرات على نظم الشعر والرقص والغناء ومن ثم الحب في مخادع عليّة القوم. الفرضية أشبعتها الدراما السورية بالهيكلية ذاتها، وهي تعدّ امتداداً للحالة نفسها في أعمال شامية تجسّدت في «خان الدكّة». ومن هذه الأعمال «الحصرم الشامي» (فؤاد حميرة وسيف الدين السبيعي) و «ياسمين عتيق» (رضوان شبلي والمثنى صبح) ويعاد طرحها هذا العام في «حرملك» (سليمان عبد العزيز وتامر اسحق- mbc1). رغم خبرته وحرفيّته، يبدو رياحنة كأنه الحلقة الأضعف بأداء رتيب يبرز طاقاته الخارجية وصراخه المستمرّ خلافاً لمسعود الذي ساندته بنيته النحيلة وإطلالته البرّانية في تجسيد سوّية مقنعة للحلّاج، المتعبّد الزاهد في الدنيا، المنصرف إلى عشق الإله بطريقة صوفية لا يمكن الإلمام بها بسهولة!
كلّ ما في العمل يقول بأنه بحث درامي متماسك في هلهلة الدولة العباسية، وسوق الجواري، وصراع السلطة، وتداول الكراسي، أحكم صياغته نص معافى تماماً من وعورة التاريخ، دعّمته رؤية تنفيذية لمخرج خبر النوع التاريخي جيداً، ثم توّج بأداء متوازن لعدد كبير من نجوم العمل. لكنّه يمرّ عابراً على صاحب «بستان المعرفة» وفلسفته الصوفية. وحدها مشاهد غسّان مسعود وبعض الضربات الموسيقية وصناعة الغرافيك للدولة العباسية التي تطلّ في صورة شبه ثابتة، وشارة البداية (قصيدة الحلّاج الشهيرة) «لي حبيب أزور في الخلوات» التي لحّنها وغنّاها بشار زرقان، تلك هي المنكّهات الصوفية لعمل تاريخي خالص لم يضف شيئاً على ما صنعه السوريون منذ سنوات!

* «العاشق: صراع الجواري»: الساعة 1:30 بتوقيت بيروت على قناة TeN ـــــ 18:00 على «روتانا دراما»