حين يقرّر عبّاس فاضل الابتعاد عن الحرب، فإنه يذهب إلى نقيض متطرّف، إلى خيار إخراجي رومانسي. «يارا» (101 د ــ 2018) هو ثاني أفلام المخرج العراقي الروائية، بعد تجارب تسجيلية هي «العودة إلى بابل» (2002)، و«نحن العراقيون» (2004)، و«وطن: العراق سنة صفر» (2015)، وشريط روائي واحد «فجر العالم» (2008)، أمضاها كلّها في العراق، تارة بحثاً عن ذاكرته في مدينته بابل بعد سنوات طويلة في المنفى، أو في الماضي الدموي والمثقل للبلاد من خلال أبنائها المهمشين. في شريطه الجديد الذي انطلق عرضه أخيراً في «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ــ بيروت)، يقيم المخرج العراقي قطيعة مع بلاده وماضيها. القطيعة مع العراق، هي قطيعة مع الحرب حتماً، خصوصاً أنها ماثلة دوماً في التاريخ الوطني القريب من حرب الخليج إلى الاحتلال الأميركي والحروب الداخلية اللاحقة. في «يارا» الذي افتتح في «مهرجان لوكارنو السينمائي»، سيكون بديهياً اعتبار تصوير المخرج لقصّة حب في قلب الطبيعة هرباً أيضاً نحو الهدوء والبراءة. خلال العرض الأوّل للفيلم قبل ايام، قال فاضل إن العمل لبناني بأكمله، باستثنائه هو. تفتتح الصورة على مشاهد لحيوانات وأشجار. يارا (ميشال وهبه)، تعيش مع جدّتها (ماري القاضي) في منزل ريفي. في هذه البيئة، الزمن متوقّف تماماً. لا شيء يتغيّر. فقط يطلع الضوء، ثم يحلّ الظلام. قد تخرج العنزات أسرع من اليوم الذي سبقه لترعى في الخارج. القطط تحرس البيت. هناك كلب وحمار مربوط بجذع الشجرة. طوال أكثر من ساعة ونصف الساعة، تدور الكاميرا في وادي قنّوبين الذي يكاد يخلو من أيّ أثر بشري. السكّان المهاجرون صور معلّقة على الجدران بجوار الأيقونات الدينية. قد يمرّ أحد سكّان المنطقة ليحضر طعاماً للجدّة والحفيدة. هذا كل ما يختلف من يوم إلى آخر. ما يقتطع صفوَ الضيعة، مؤقّتاً، هو مرور الشاب الياس التائه (الياس فريفر) من أمام البيت، بعدما ضلّ طريق الخروج من الوادي. يلتقي بيارا لتنشأ قصّة حبّ تستسلم لإيقاع البطء والرتابة الذي يعمّ المكان. صحيح أن نزهاتهما في الوادي تذهب إلى بقع طبيعية جديدة مثل الشلال، والكنيسة، والبيوت المهجورة، إلا أن الكاميرا تعطي انطباعاً بأنها ملتصقة بالهمّ التوثيقي، خصوصاً أن المشاهد لا تصل إلى ما هو أبعد من الظاهر.
فاضل الآتي من خلفية في الأفلام التسجيلية، يبقى فيلمه عالقاً في هذا الإطار. خلال اللقاء معه في «متروبوليس»، أكد أنّ خياراته الإخراجية انقادت إلى وجه الفلاحة ماري القاضي، التي تؤدي دور الجدة، بالإضافة إلى تخلّيه عن السيناريو مقابل «تصوير كلّ يوم في يومه». وعندما يقع فاضل على «أرضٍ ريفيّة عذراء»، تبقى قصّة الحبّ عذراء أيضاً. بمعنى أن البطء والإطالة يطبعان اللقاءات بين الحبيبين مع افتقارها إلى أيّ سياق يخالف المتوقّع. كلّ ما يُنتظر في هذا السكون هو مرور الياس بيارا. الزيارة لا تصبح فقط متوقّعة، بل منتظرة كي تكسر رتابة المشاهد الخضراء في الفيلم. كأن قصة الحب هي مشاهد مقتطعة وملصقة على هذه الخلفية الخضراء الوادعة. كلّما قلّت الشخصيات، أو انحسرت الحبكة الدراميّة، ننتظر من الحوار أو من اللقطات أن تملأ هذا الفراغ. طوال الشريط، هناك ما بدا مفكّكاً وناقصاً. أمام غياب سيناريو متماسك، فشل الفيلم في خلق خلفية مقنعة لحياة يارا، وعيشها مع جدّتها. علاقة لم نشعر بها إطلاقاً. كلّ منهما تعيش في عالمها الخاصّ.
قصّة حبّ تستسلم لإيقاع البطء والرتابة في مناخ ريفي

تبدو القصّة كما لو أنها خارجة من عصر آخر، حتى الشخصيات نفسها. لا نعرف لم لا تذهب الفتاة إلى المدرسة أو إلى الجامعة. تعيش في هذه الطبيعة المعزولة من دون أدنى رغبة في معرفة العالم الخارجي. تمرّدها الوحيد يكمن في الحب. حبّها للشاب الذي يتنبّه أبناء الوادي إلى دخوله وخروجه إلى البيت. لكن فسحة «التمرّد» الوحيدة في الفيلم، على براءتها، يخمدها المخرج. منذ البداية يظهر تنافر الشابين العصريين ظاهرياً، رغم براءتهما خلال اللقاءات، مع المكان، ومع سياقه. عندما جاء ليصوّر في لبنان، ابتعد فاضل عن بيروت التي تتوقّف عندها الكاميرات عادة. باستسلامه التام للبيئة الريفية، انصرف إلى تحدّ قد يكون صعباً بالنسبة لمخرج يفتقر عمله إلى سيناريو متماسك، أو رؤية تصقل المشهد الواقعي. في الأفلام الوثائقية مثل «سمعان في الضيعة» لسيمون الهبر و«ميّل يا غزيّل» لإليان الراهب، أو الروائية مثل «الوادي» لغسان سلهب وغيرها، استطاع المخرجون اللبنانيون التخلّص من هاجس بيروت، لكن المساحات الطبيعية والريفية التي حطّوا فيها لم تكن حياديّة تماماً. كأنها كانت مساحة هادئة كي تغرس اصبعها في الماضي، كي تطلّ على الحرب بهدوء للنفاذ من الهويّة الفرديّة (من خلال الشخوص) إلى الهويّة الجماعية. لا نستعيد هذه الأعمال بهدف المقارنة. لكن فاضل لا يعزل فيلمه عن السياسة فحسب، بل عن كل ما هو خارج الطبيعة والبيئة اللتين لم تستطع كاميرته رؤية أبعد منهما. علقت الكاميرا، مثل الحمار الذي نراه بين مشهد وآخر، من دون أن يتغيّر، مطمئن إلى الحبل الذي يلفّ رقبته. هكذا، تبقى الكاميرا ملتصقة بحَرْفيّة المكان، في لقطات تطول ولا تقدّم جديداً. كأنها تبحث عن شيء ما ولا تتمكن من التقاطه حتى نصل إلى النهاية.

* «يارا» لعباس فاضل: سينما «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 01/204080