لا نأتي بجديد لو قلنا إنّ أحد أهم أسباب خلخلة الدراما السورية وتراجعها هو انصراف عدد كبير من شركات الإنتاج نحو موضة «الدراما الشامية». يعتقد بعضهم بأن شيخ كارها هو المخرج بسّام الملّا، كونه بحسب الظنّ الخاطئ أوّل من بدأ مشوار هذا النوع مع الكاتب أكرم شريم في 13 حلقة بعنوان «أيّام شامية» (1992)، أتبعها بسلسلة من الأعمال المشابهة حتى وصل إلى «باب الحارة» وراح يمعن من خلال السلسلة الشهيرة في تشويه تاريخ دمشق! الحقيقة التي لا ينتبه لها كثيرون هي أنّ مؤسس دراما البيئة الشامية التلفزيونية هو معلّم السيناريو الراحل نهاد قلعي مبتكر الكاركتيرات الكوميدية الخالدة، كونه أوّل من مشى حكائياً على حواف الحارة الشامية، لكن بأبطال مسبوكين على قوالب ذهبية! ربما أكثرهم صدقاً وتحرراً وتعبيراً موضوعياً عن انفتاح دمشق أيّام زمان كانت «فطّوم حيص بيص» (الراحلة نجاح حفيظ) كونها أدارت بعقلها «فندق صحّ النوم» وتركت قلبها يعشق الصحافي «حسني البورظان» (نهاد قلعي) وعانت من مقالب «غوّار» (دريد لحّام). وفي النهاية لم تتزوّج سوى شغّيلها الدرويش «ياسينو» (ياسين بقّوش). بمعنى أنها امرأة تختصر بصيغة كوميدية لافتة عوالم مكثفة لشكل الحياة الواقعي في «عاصمة الياسمين» آنذاك. وقد مرّت تجارب مكرسة، لكنّها أقل شهرة مثل «أبو كامل» (كتابة فؤاد شربتجي، وإخراج علاء الدين كوكش ــ 1990) إلى أن أعاد «الآغا» تموضعه الثابت بطرح مفهوم مغاير للحدوتة الشامية في قالب شعبي راق للجمهور، ولم يزعج البنية النقدية، إلا بعدما قلّده كثيرون، فأطلقت السهام على آلية إنتاج دراما شامية مستنسخة تنجز بالكيلو وتباع بالجملة، بخاصة أن صناعة الدراما على مستوى العالم، وصلت إلى أعلى درجات التكثيف، لدرجة نشاهد فيها الحكاية تقدّم كاملة على منصة إلكترونية وعلى مدار ساعات زمنية.أما سورياً، فنحن أمام التفريخ الباهت ذاته. في الموسم الرمضاني الأخير، قُصف الجمهور بباقة أعمال شامية يتربّع على رأس فشلها جزء عاشر (تايواني) من «باب الحارة» (مروان قاووق ومحمد زهير رجب) أنتجته «شركة محمد قبنض» بعد إقصاء بسّام الملا عنه، ويتوقع أن يعود الأخير إلى «ماركته» في العام المقبل، باعتبار أنّ المعارك القضائية ربما لا تحسم بشكل نهائي بهذه السهولة.
كذلك، يُنتج «الحجي» جزءاً خامساً من «عطر الشام» وعرضت الفضائيات السورية «حارات الشام العتيقة» (علاء عسّاف وغزوان قهوجي)، فيما تسيّد «سلاسل دهب» (سيف حامد وإياد نحّاس) المشهد المحلي في رمضان 2019. المنطق السردي لغالبية تلك الأعمال خاوٍ بيتمه! حارة شعبية لها زعيم وحوله مجموعة من المستشارين و«الكباريّة». ولكي يبلغ الصراع ذروته، لا بد من أزعر يمثلّ محور الشر، وعندما يراد للطبخة أن تكتمل، يجب رشّ بهارات البطولة في مقارعة المستعمر الفرنسي من شباب الحارة! وفي حال أرادت القافلة الدرامية التحوّل الجذري نحو اجتراح حلول تنويرية، في محاولة لطمس العيوب الكارثية التي تُرتكب في الترويج لعبودية المرأة والمفاهيم البائدة، فإن الصورة ستظهر على شكل بدائي مثل أن نلمح تظاهرات تمشي فيها نساء أو قصص حب يتم إسقاطها في القالب الرجعي نفسه.
المصيبة أنّ تلك الأعمال وجدت مؤرّخاً معروفاً يطيّب لها، ويتراجع عن مواقفه النارية ضدّها ليقول على صفحات الإعلام المحلّي إنّها «فانتازيا لا تضرّ بتاريخ أقدم مدينة في العالم». وهذا كلام عارٍ من الصحّة جملةً وتفصيلاً لأنّ الحدث يجري على خلفية مؤشرات تاريخية!
النقطة البارزة في الموسم المنصرم دخول «مؤسسة الإنتاج التلفزيوني» على هذا الخط في مسلسل عائلي بامتياز بعنوان «شوارع الشام العتيقة» كونه تأليف علاء عسّاف الذي يتشارك البطولة مع النجم رشيد عسّاف، فيما يتولى سهيل عسّاف إدارة إنتاجه، ويؤدي بقيّة أدوار البطولة كلّ من: صباح الجزائري، ومرح جبر، وعاصم حوّاط، ورهف الرحبي، وجانيار حسن... المسلسل يخلط بين سحب الشبرّيات والاستعراضات البرّانية المنفّرة، مع توليفة تصاغ بشكل ساذج عن تحرر الأنثى وذهابها إلى المدرسة وقصص الحب المفبركة بين شخصيات تنتمي لأديان مختلفة... كل ذلك بنفس منطق «باب الحارة» ومن خلال خطوط جاهزة بأسلوبية القص لصق! أوّلها يظهر من خلال شخصيّة الزعيم «أبو عرب» (رشيد عسّاف) وعراكه الافتتاحي مع «أبو سلمى» (رامز عطا الله). الحالة معادلة تماماً لما شاهدناه في أحد أجزاء «باب الحارة» ومعركة العكيد «أبو شهاب» (سامر المصري) مع «أبو ساطور» (أدّاها رامز عطا الله أيضاً). وحول تكرار شخصية الشيخ (عادل علي) بحذافيرها لن يكون هناك أي تعليق باعتبار أن الرجل صار يطلب منه فتاوى دينية في الشارع، حسبما قال لنا مرّة لكثرة أدائه الدور نفسه في مجموعة أعمال مشابهة! المفارقة أنّ المسلسل يستفيد بجرأة تصل إلى حدود الوقاحة الفنية من مسلسل البيئة الحلبي «كوم الحجر» (كتابة كمال مرّة، وإخراج رضوان شاهين ــ 2007). حينها، شاهدنا وائل شرف وهو يؤدي شخصية ابن عائلة محافظة وراقية عميدها رجل جبّار يلعب الشخصية سلّوم حداد، وكيف يقع الابن في حب مغنيّة ملهى (نورا رحّال). وفي «شوارع الشام العتيقة»، يعاد فرد معطيات الفرضية ذاتها بمنتهى الدقة، فنشاهد ابن «أبو عرب» (عاصم حوّاط) «يلفي» على ملهى ليلي برفقة صديقه (يحيى بيازي) ويقع في غرام مغنيّة الملهى الجميلة (رشا إبراهيم). تمرّ الحلقة في هذا العمل، من دون حتى أن نلمح أي براعة في التصعيد، أو خلق الحدث الحماسي، أو التهويل الدرامي الذي تعتمده هذه النوعية من المسلسلات. فعلياً يمكن القول إنّه كنّا أمام مادة تلفزيونية، ليست سوى تنفيعة وفسحة للاسترزاق! اللافت أيضاً أنّ ما أنتجته المؤسسة الحكومية سابقاً كان محاولة للرد على هذه النوعية من الدراما من خلال طرح نماذج نسائية لها تاريخ نضالي حافل بعمل حمل عنوان «حرائر» (2016 ــ عنود خالد وباسل الخطيب).
لا خلطة واقعة بين التوثيق لذاك الزمن والفرجة الشعبية الممتعة


على خط موازٍ، لم تنجز النسخة «القبنّضية» من «باب الحارة 10» (بطولة: نجاح سفكوني، وقاسم ملحو، وزهير عبد الكريم، ومرح جبر، وفاتح سلمان، وناظلي الرواس، وجوان خضر، وعادل علي) سوى السخرية المفرطة من قبل الجمهور لأن العمل يشبه كل شيء إلا السلسلة الشهيرة. الحكاية افتراضية هربت من فكرة استقدام الشخصيات الأساسية للمسلسل بقصف الحارة ونزوح أهلها نحو أحياء جديدة. تحط القصة في «حي الصالحية» وترصد شخصياتها الأساسية وتلك التي نزحت من «حارة الضبع» في محاولة لإنعاش فرضية ميتّة في الأصل! ربما يكون العمل قد حقق رقماً قياسياً في السخرية لدى المشاهدين، لا سيّما أنّ أهم ما حققه إنتاجياً هو تسميم بعض الممثلين والفنيين بعد إطعامهم وجبات فاسدة أثناء التصوير، فيما تجتر الشركة ذاتها أحداثاً مضافة لسلسلة «عطر الشام» في جزء رابع (تأليف أحمد حامد، وإخراج محمد زهير رجب) ضمن السياق نفسه وبالطريقة والمنطق التجاري عينهما!
ربمّا الملح الوحيد للنجاح الجماهيري في هذا النوع خلال الموسم المنصرم هو «سلاسل دهب» (بطولة: بسام كوسا، وعبد الهادي الصبّاغ، وكاريس بشّار، وديمة بيّاعة، ومهى المصري، وجيني إسبر، وطارق عبدو، وأنس طيارة) بذريعة حشد النجوم الواسع، واللعب على الحدوتة، رغم المفاهيم البائدة أو المفردات التي لا تشبه الصيغة المعاصرة للدراما. إلا أنّ العمل جذب شريحة كبيرة من الجمهور من خلال شخصية الصائغ الحربوق «ميهوب» (بسام كوسا) والذي يبتكر بأسلوبية كهينة إجماعاً حوله، فيما ينصرف طيلة الوقت نحو نزواته والزواج بأجمل النساء بتمهيد من شريكته في اللعنة (شكران مرتجى)، إلى جانب الدهاء النسائي الخالص عند بقية أقطاب الحكاية خاصة في الدور الذي تؤديه (كاريس بشّار). صحيح أنّ الكفة الجماهيرية رجحت لصالح المسلسل، إلا أنه فعلياً لم يظهر أي نية للخروج من عباءة الدراما الخاوية التي لا تقول شيئاً، ولا تطمح لأي محاولة، أو اجتهاد على صعيد التجريب أو إعادة تدوير الوقائع بما يشبه الخلطة الواقعة بين التوثيق لذاك الزمن والفرجة الشعبية الممتعة. الحدث هنا يدور حول كيد النساء، والزواج، والطلاق، والسحر والشعوذة، ورمي البلاء، وكيفية تلقيه. عموماً هذه النوعية من الأعمال هي سقف ما ترمي إليه التسلية وتحقيق نسب عالية من المشاهدة!