يوم قرر قلب جوزف أن يحتكر حبه وأن يستأثر بتلك البسمة وأن يغدر ويغادر، كتب له عشية 25 شباط 2007 أنْ «موت كموتك قتل». على مسافة أسبوع من «جريمة» سماحة اليومية، ولمن لم تقنعه سباعيتها السنوية، قرر أنسي أن يترك لنا كل القرائن، أن يتركنا نقبض عليها في إغفاءة عينيه، وأن يتركنا، ويترك ...مع الفارق أن «قتل» أنسي اليوم يبدو مفهوماً أكثر. منطقياً.

مبرراً ومعللاً. فسباعية العجف الفاصلة بين الجريمتين كانت كافية لإقناعه. ماذا بقي لثائر مثله، في زمن تحول الثورات إلى ظلاميات، والثوار إلى مرادفي ثيران، وأحلام التغيير إلى فرمانات تعيين... ماذا يبقى لعاشق مثله، في زمن الحب المقنن والمقونن، زمن الحب المعتقل بين شرائع الطوائف وبربريات الأديان، وزمن الحب المبتذل بين مقاصل الأحقاد وتفاهات شاشات الواقع ... وماذا يبقى لمدمن «كلمات» كالذي كانه، في عصر سبيها إلى «مواقع التواصل»، وتعهيرها بحصرية «كلام الصورة»، وتكبيلها بتعداد الحروف وقطع الرؤوس...
كم ضاق صدر أنسي بعالمنا. أو كم ضاق زمننا المجهري المقزم المأزوم بعملقته وكلمته وثورته المستدامة. أو كم ضاقت كلماته ذرعاً بفراغنا وخوائنا وعدمنا، حتى «قتل» ورحل. في آخر كتاباته، كان كمن يرهص بما هو فاعل. أكثر من مرة حاول دس الخبر لنا، بين خيبة وصدمة. بهدوئه. بروعته. بأناقة العبارة وجمالية التعبير. اعتقدنا أنه يتصالح مع الجميع. بينما كان فعلاً يودعنا، ويودعنا آخر حبه. كان يصفي حسابه مع أحلامه الخالدة. حتى لا تخجل منه أو تزعل، إن ضبطته فجأة يمشي عكسها. استعاد كل الأشخاص الذين لم يلتفت إليهم يوماً. استحضر كل الأفكار التي رذلها كل يوم. كشف مواقف في السياسة والسياسيين، ما كان ليرويها وسط الطريق. قال رأيه في الدين بوقاحة المرتدين الأتقياء الأنقياء. جعلنا بإيحاءاته نستعيد إدراكنا عداوة الطقوس مع الحرية. بؤس الإيمان الحَرفي وظلم مؤسسات بيع السماء وإيجارها. قال كل ما في قعر رفضه. كمن يستعد لمواجهة الديان، بريئاً من جرائم وكلائه الحصريين وذرائعهم باسمه. ذات يوم، قبل مدة، بدا كمن وقف قبالة جردته. اطمأن إلى تمامها. خط آخر زيح تحت صحة الحساب، وأقفل المحضر. عاد خطوات إلى الوراء، أعاد التفكير ثواني لم تطل: لا ثورة جميلة مثل امرأة، لا حب يختصر العمر مثل ثورة، لا كلمة تستحق قراءة متأنية مثل جسد أو مانيسفت. ماتت الرسولة وانتحرت الكلمات ونحرت لن بأمر جزم ماضوي ... آن أوان «القتل»، وداعاً لكل الضحايا.
أفهمك، كما كل سبت. كما كل لحظة. كما أبداً.