على خلفية التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، بدا لي أنه يصعب اليوم أخذ مواقف جاهزة أو تناول وضع السوري المقيم في لبنان بعجالة سريعة تخلو من الانفعالية أو التعاطف، أو الاكتفاء بشتيمة ما تطال طرفاً أو آخر، خصوصاً في ظل الظرف السياسي الذي تعيشه سوريا مع دخول فصل جديد ومختلف من الحرب يتجلى في تركز الاقتتال في شمال سوريا، وابتعاده عن العاصمة حيث يوحي البعض فيها إلى عودة الحياة إلى «طبيعتها». بعد التغريدة الشهيرة (من الطبيعي أن ندافع عن اليد العاملة اللبنانية بوجه أي يد عاملة أخرى أكانت سورية فلسطينية فرنسية سعودية إيرانية أو أميركية فاللبناني «قبل الكل»)، اشتعلت مواقع التواصل بالتعليقات والمواقف المختلفة بين مؤيد ومعارض. وإزاء العمل في لبنان، لديّ كلمة أو اثنتان أحكيهما من تجربة شخصية لا تحتمل التعميم، لكنها تشكل نموذجاً عن شاب سوري عبَر الحدود اللبنانية بحثاً عن محطة أكثر أماناً، مكرهٌ أخاك لا بطل.قدمت إلى بيروت متعباً ومحبطاً عام 2017 هرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا، بعدما عايشت طاحون الحرب لأكثر من سبع سنوات، آملاً بالسفر إلى ألمانيا لمتابعة الدراسة. لا شك في أنّه كانت لديّ مخاوف عديدة حول إقامتي في لبنان بسبب ما كنت أقرأه في الأخبار حول «العنصرية في تعامل اللبنانيين مع السوريين». في الواقع، بدأ الأمر مع خوفي الأولي من نقاط التفتيش الحدودية وما أعرفه عن المواقف المهينة التي يتعرض لها كثيرون عند العبور إلى لبنان.
كنت أشعر أني محظوظ، إذ أني أنتظر التأشيرة من السفارة الألمانية واعتبرت أن بقائي في بيروت ـ أياً كان شكله ـ هو محطة مؤقتة، كما يراه الكثير من السوريين، ريثما أتمكّن من السفر.
سيشي تيرازونو ـ اليابان

قضيت الأيام الأولى في بيروت وأنا أتجنب الحديث ما لم أضطر لذلك، فلهجتي سورية، سواءً مع سائقي التاكسي أو عند شرائي حاجيات البيت أو حتى مع رفاقي في الشقة المشتركة. لم أستطع أن أطور لهجة محايدة أو واحدةً تميل للبنانية، ولم أرد أن أفتح على نفسي باب مواقف امتعاض واضح أو تعاطف غريب أو أسئلة: من أي منطقة أنت؟ هل أنت مؤيد أم معارض؟ ماذا تفعل هنا؟ هل أوراقك نظامية؟
كنت أتصرف بحذر شديد وأشعر بأني محاصر. لم أحصل على التأشيرة واضطررت للبقاء سنة إضافية حتى أستكمل أوراقي. تعرفت في ما بعد إلى مجموعة من الشبان والشابات اللبنانيين الذين أصبحوا بمثابة الأخوة والأسرة بالنسبة إليّ، والذين لم أشعر معهم بتمييز أياً كان نوعه. كان هذا عزائي الوحيد خلال المدة التي قضيتها في بيروت.
كنت أخاف نقاط التفتيش، لا أحمل أوراق إقامة نظامية. كان علي أن أجد عملاً كي أؤمن حاجياتي اليومية، فوضع أسرتي لا يسمح لهم بإرسال ما يكفي لتغطية كلفة المعيشة الغالية في بيروت، وهنا بدأت رحلتي مع الاستغلال المهني في بيئات العمل المختلفة. بدايةً عملت مع محل فاخر لبيع الحقائب النسائية في وسط بيروت كموظف مبيعات عادي. لدي مناوبات محددة وساعات عمل ومسؤوليات واضحة. لكن عندما عرفت صاحبة المحل أنّني خريج كلية الإعلام أتمتّع بخبرة في التعامل مع برامج التصميم والعمل في مجال التسويق الإلكتروني، زادت متطلبات العمل فجأة، وبدأت أسمع جملة من نوع «نحن هنا فريق واحد وعائلة واحدة، وكلنا نؤدي جميع المسؤوليات، والنجاح لنا كلنا معاً». وافقت طبعاً، فالاستغناء عن خدماتي سهل في غياب عقد أو قانون يحميني. وافقت مع التحفظ على المتطلبات الجديدة التي وضعتني محل مصمّم غرافيك تارةً، وخبير مواقع تواصل اجتماعي طوراً، أؤدي مهماتي كموظف مبيعات وأعمل على تصميم منشورات وبوسترات تخص صاحبة العمل. ووعِدت بالحصول على نسبة أو مكافأة للعمل الذي أقوم به انتهت إلى مبلغ إجماله 50 دولاراً غطّى سبعة تصميمات اشتغلت عليها ونسبة من المبيعات التي حققتها والتي بلغت 7000 دولار ذلك الشهر. لم أحصل على عقد عمل أقدّم من خلاله كسوريّ على أوراق إقامة نظامية، وعندها قررت ترك العمل، وقوبلت بهجوم شديد من قِبل صاحبة العمل التي اعتبرتني جاحداً ولست team player كفاية. حاولت العثور على فرص عمل في مجالي، إلا أني تلقيت ثلاثة اتصالات من ثلاث شركات مختلفة أرسلت لها سيرتي الذاتية لتحديد موعد للمقابلة. وعندما كان يسمع الموظف لهجتي، يسألني «إنت سوري؟» ويلحقها بـ«بعتذر منك نحنا ما منوظّف سوريّة».
وجدت فرصة عمل أخرى مع مبادرة لتعليم اللغة العربية للأجانب عبر الإنترنت، تعنون عملها بـ «مدّ اللاجئين السوريين بالدعم» من خلال تعليم اللغة عبر جلسات «سكايب» للطلاب الأجانب. عملت مع المبادرة لفترة سنة تقريباً، متحفظاً على كل العناوين والمنشورات التي تدرجها المبادرة على موقعها الإلكتروني ومنصاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، مبرزةً فعلها «الخيري» الذي يستند أساساً إلى استغلال حاجة أفراد سوريين في لبنان وتركيا للعمل لقاء أجرٍ بخس في تعليم اللغة العربية للأجانب. إذ تحصل المبادرة على 30% من قيمة كل جلسة ويحصل السوري المضطر لهذا العمل على 10 دولارات لقاء الساعة الواحدة. اضطررت مرات عديدة لإعطاء دروس جماعية لطلاب جامعة، أو متابعة مناهج دراسية في جامعات أوروبية في كورنيل ولندن. تركت العمل مع المبادرة لعدم قدرتي على احتمال اللطافة المصطنعة والاستغلال الواضح واعتراف فريق المبادرة، عندما حاولت مناقشتهم بشأن ملصقات وزعوها علينا تحمل جملة «ربط اللاجئين بمتعلمي اللغة عبر العالم» بأنهم يحتاجون لكتابة كلمة «لاجئين» في خطتهم التسويقية «كاستراتيجية جذب»، رغم معرفتهم بأن المشروع لا يقدم دعماً وإنما عمالة مجحفة بحق كل مشاركٍ يضطر لها لانعدام بدائل أو فرص متاحة كمثلي.
كانوا يضعون كلمة «لاجئين» في خطتهم التسويقية «كاستراتيجية جذب»!


شاءت الصدف أن وجدت عملاً في اختصاصي ومجالي (الإعلام والترجمة) مع شبكة محترمة لدعم دور السينما العربية ومقرها بيروت. عملت مع الشبكة سابقاً كمترجم ومدقق لغوي لأكثر من خمسة أشهر. وقّعت مع الشبكة عقداً شكلياً يثبت أني أعمل معهم كمستشار للتواصل لا كمسؤول تواصل فعلي في حال تمت مساءلة الشبكة قانونياً عن دوري فيها. عندها اعتقدت أن مدينة بيروت تفتح أخيراً أبوابها لي وأن هذه الفرصة ستكون مفيدة وكافية لأتعلم الكثير وأزيد خبراتي ريثما أحصل على التأشيرة. على الرغم من أن المقابل المادي لا يتوافق تماماً مع المهام التي كنت أقوم بها وتأخذ من وقتي ست إلى سبع ساعات يومياً وأحياناً أكثر، إلا أني كنت راضياً بالفرصة. إذ أن المقابل المادي مقارنة بما اعتدت أن أتقاضاه في سوريا خيالي: 1000 دولار! إلا أني لم أحسب أن الأجر المادي للوظيفة يجب أن يتوافق مع المستوى المعيشي في المدينة التي يقطنها الموظف. كما جرت العادة، وعدت بأني سأتثبّت وسأحصل على عقد رسمي يمكّنني من استخراج إقامة نظامية، إلا أن الحجة بأني سأضطر لمغادرة البلاد والعودة أربكتني وأربكت الشبكة. بقيت أشتغل معها إلى أن حصلت على التأشيرة وسافرت، واستبقى فريق العمل على خدماتي. مدّني ذلك بشعور بالأمان؛ إذ أنني سأتمكن من تحقيق استقرار مادي بينما أكمل درجة الماجستير في أوروبا.
بعد قدومي إلى ألمانيا، حصلت الكثير من التعقيدات وتدهورت صحتي النفسية. غيّرت شكل العقد إلى دوام حرّ، وحاولت أن أحافظ على مستوى العمل ذاته. إلا أن الشبكة بدأت تستغل ذلك وتفرض علي مهاماً أكثر. مع معرفتها بأني لا أستطيع تأمين فرصة عمل أخرى في البلد الجديد، أضحى نقاشنا الدائم يتمحور حول تقصيري في العمل الذي كنت أؤديه. عدت إلى دوام جزئي مقابل المردود المادي ذاته. لكن حين طالبت بعلاوة، قوبلت بالرفض، رغم أني أصبحت متمرساً ومعتاداً على العمل، وكنت قد أتممت شهري التاسع مع الشبكة. لكن المدير قال لي إنّ الأشهر الثلاثة الأولى كانت فترة تجريبية، والثلاثة التي تلتها كان عملي فيها غير مستقر. الخلاصة كانت أنّ لا حق لي للمطالبة بعلاوة. قبلت وتابعت العمل حتى الشهر الماضي الذي حادثني فيه المدير المطّلع على كل ما أعمل عليه، وقرر أن يفصلني لتقديره أني السبب في تأخير إحدى المهمات. كلمتني مديرتي المباشرة في اليوم التالي وقالت: «معليش، كان معصّب ومحبط». لذلك اضطر أن يهاجم الحلقة الأضعف في شبكة حيث فريق عملها كله يتقاضى 2500 دولار وما فوق، وأتقاضى أنا 1000 دولار عليّ أن أقسمها بين قسط الجامعة والمعيشة الباهظة في ألمانيا. رفضت الشبكة أن تدفع لي تعويضاً، في المقابل عرضت عليّ ترتيباً آخر، إذ إنها لا تستطيع التخلي عن الموظف الوحيد الذي يترجم ويتقن العربية الفصحى في شبكة للسينما لغتها الرسمية هي العربية. الترتيب الآخر هو أن أعمل معها ريثما تجد بديلاً. أحضر الاجتماعات وتُفرض عليّ مهام، ولا يؤخذ جدول عملي على محمل الجد وتُوجه لي الإهانة والتقريع على أمور لست مسؤولاً مباشراً عنها. سوري يعيش في ألمانيا، يريد أن يتابع دراسته، ليس لديه مورد مادي آخر ولديه مهارات، لنستغل حاجته معاً، ناهيك عن مناوشات التحرش التي تعرضت لها من مدراء العمل وما يلحقها من مفردات علاقات القوة التي لا تسهل مقاومتها في بيئات العمل.
تركت العمل اليوم، وأبحث جدياً عن فرصة أخرى. وعندما قرأت تصريح جبران باسيل الأخير وأنا في ألمانيا، لم أضحك ولم أغضب ولم أتعجّب، فهناك نسبة لا بأس بها من اللبنانيين الذين تسحقهم ظروف العمل المهينة والفقر بالفعل. لكن الحل لم يبدُ لي منطقياً بالاستقواء على الحلقة الأضعف ممن تقهرهم ظروف الحياة وتدفعهم للقبول بفرص العمل المجحفة وغير الإنسانية لتحويش لقمة العيش في دولة يراها كثير من السوريين المهجّرين محطة مؤقتة لا غاية. محطة قريبة يتمنون العودة منها إلى سوريا لم تعد موجودة إلا في الذاكرة أو العبور إلى قارة الأحلام العجوز مبهمة الأفق.

* كاتب وفنان مقيم في ألمانيا ـــ خريج كلية الإعلام (جامعة دمشق 2016)