مهاب نصر* أين هو الشعر الآن؟ لا أعني أين دواوين الشعراء، ولا منابر القصائد، بل أين هو كممارسة إبداعية تجاوزت حدودها، عقوداً، لتمثل رأس حربة في التمثيل الثقافي، وصراعات النخبة؟ ربما كان صراع الأجيال الجديدة أكثر مباشرة، وربما ابتدع لنفسه رموزاً شعبوية انتقلت بالشعر وألعابه إلى الميادين.

لكن في عهود الاستبداد، خصوصاً ما تلا ما يسمى بحركات التحرر الوطني، كان الشعر معركة، وكان الشعراء يخرجون علينا في جلال زعامة مناقضة ومقابلة للزعامة السياسية. كانوا حراس الجمال، في مقابل حراس السلطة، المدافعين عن جنون الخلق، مقابل عقلنة الاستعادة والتكرار. ولأنهم تفرغوا تقريباً لمناقضة السلطة، فقد حملوا قدراً لا يستهان به من صفاتها. أنسي الحاج كان واحداً ممن دخلوا هذه المعركة مع "لن" و"الرأس المقطوع". الأول صدّر ببيان قوي عن قصيدة النثر كأنها أكبر من أن تكون "قصيدة"، إنها بيان ثوري. بيان ليد تحطم وتهدم، ولكلمة منفلتة من أضابير اللغة الكلاسيكية، عارية كالجنون. تحدث أنسي في بيانه عن "الف عام من الضغط" كأن قصيدته، جاءت لتنهي تاريخاً كاملاً مترامي الأطراف من السياسة إلى الدين إلى الثقافة، ولم تجئ لتقر نوعاً أدبياً جديداً. كان أدونيس يفعل ذلك أيضاً، ولم يفق حتى اليوم من هذا "الدور"، ولا من تلك المرحلة التي مثل الشعر فيها، غموضه وهيجانه، استعارة كبرى لثورة لم تقع أبداً في الواقع، بل كان الواقع يسير باتجاه عكسي تماماً لها، ليكشف حتى بعد ثورات الربيع العربي كم هو معقد، وكم التاريخ أكبر من صفحة تطوى، ومن قضية نوع أدبي يركل آخر في خاصرته! لكن أنسي الحاج مع حفاظه على المرتكزات الإنسانية نفسها للمعاني المتقابلة للحرية والاستبداد، الجنون، والعقل الأداتي، والإبداع والبلادة، عاد خطوة "إلى الوراء، هي في الحقيقة قفزة إلى الأمام، عاد إلى ما يمكن تسميته "الجوهر" ليصنع قصيدته الخاصة شديدة التفرد والحساسية. خرج أنسي الحاج من مظاهرة قصيدة النثر، أو من التلويح بها كقبضة في مظاهرة، لتكون عَيْناً للتأمل هادئة أحياناً، وفي أحيان أخرى عمياء تماماً، تدفع الجسد إلى أن يتقرى بملامسه معنى الحياة كجسد وروح. الحب كان بانتظار أنسي الحاج. الحب كما عبّرت في مقال قديم عن ديوان "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، دفعه إلى صداقة الأرض، أي الانتباه إلى الثالث المرفوع في التناقض بين السلطة والجمال. تديّنت لغة أنسي الحاج إن صح التعبير، تديناً علمانياً. شفّت وتنبهت واندهشت دون أن تصرخ. يكتب أنسي: "التخلص من شهوة الانتقام يخفف من حدة اللغة، ويعوض عنها بكثافة الألم. وحزن الاحتقار ـ إن لم يكن الصفح ـ أكبر من هيجان النقمة، الذي إغراؤه الأول يبقى "الحيوية" الخارجية لا جوهر المعاناة. الغريب أن الشارع العربي في ثوراته أحيا النمط الصراعي القديم للتناقضات من دون أن يتعلم من درس القصيدة. أعاد الأخطاء نفسها باستخدام رموز من الشارع. لكنه أيضاً لم يرفع سوى قبضات في مظاهرة، بدلاً من أن يقدم اعترافاً بالمشاركة في الذنب، ولذلك أبدل سلطة بأخرى ووجد نفسه أمام حائط مصمت.
* شاعر مصري مقيم في الكويت