أحياناً، ومن دون تفسير منطقي أو مرتبط بالذائقة، يُعجَب المرء بتجربة فنية قد لا تكون، لناحية إطارها العام، من ضمن قنوات بحثه عن موسيقى جميلة. كثيرون ممن لا تشكل الموسيقى الإلكترونية، أو الإلكترو-أكوستيك بوب تحديداً، أولية مطلقة لديهم (وليس لديهم كذلك فيتو نهائي تجاهها) أعجبوا بالألبوم الأول الذي طرحته المغنية الفرنسية المعروفة باسم جاين (Jain). فعلاً، فيها شيء قريب من القلب هذه الفتاة. عفوية، صوتها عادي، لكن في نبرتها ما يلفت الأذن، تعوّل على الكلمة البسيطة، غير التافهة وغير المعقدة، وكذلك على العنصر الذي بات يشكل أزمة في موسيقى البوب عالمياً، أي اللحن الجميل، أو المقبول بالحد الأدنى، بمعنى أنّ فيه حداً أدنى من الملامح المميزة. أضف إلى ذلك، استخدامها الجانب الإلكتروني لما له من إمكانات لناحية الأصوات الجديدة (بمعنى Sound)، التي إن توفرت الذائقة في توليفها قد تنتج عنها تحفة أحياناً. أضف إلى ذلك أيضاً، أن المغنية الشابة، التي ندرجها هنا، لا تحت خانة الأغنية الفرنسية، لأن لا شيء يربطها بها سوى جنسيتها، هي التي تكتب وتؤلف أغانيها، وتستخدم في صناعتها ــ بالتوازي مع الجانب الإلكتروني ـــ آلات موسيقية إضافية، مثل الغيتار والباص أو حتى النحاسيات. جاين ضيفة «مهرجانات بعلبك الدولية» (الأول من آب/ أغسطس) هذه السنة، في لفتةٍ إلى الموسيقى التي تهمّ الشباب، من النوع الذي اعتدنا عليه في «بيبلوس».
تربطها علاقة بأفريقيا انعكست بشكل واضح في صوتها وأسلوبها في الأداء

في إحدى أولى وأشهر وأفضل أغانيها، Come (أغنية عاطفية تتحدّث عن علاقتها بشاب بعيد عنها)، يتغيّر الجو العام فجأة، وتدخل مؤثرات مختلفة عن مسار الأغنية، فتقول الفتاة: «روحي معك في أفريقيا» (My soul is in Africa with you boy). وفي الألبوم ذاته، أغنية ثانية بعنوان Makeba، والمقصود طبعاً أسطورة الغناء والنضال، الجنوب أفريقية الراحلة مريم ماكيبا (استضافتها «بيت الدين» عام 2002). ثمة علاقة مع أفريقيا إذاً، والتأثير واضح في صوتها حتى، وفي أسلوبها في الأداء (ولفظ بعض الكلمات) وفي الأصوات والمؤثرات الصوتية والإيقاعات المستخدمة في باكورتها التي صدرت نهاية عام 2015 بعنوان Zanaka الذي يردّ لفظياً، تلقائياً، إلى أفريقيا، بصرف النظر عن معناه أو دلالته. يتبيّن من خلال إحدى مقابلاتها أن لديها أصولاً أفريقية (مدغشقر) من جهة جدّها لأمها. لكن الأهم أن جاين، المولودة في تولوز الفرنسية عام 1992، عاشت متنقّلة في بلدان عدة من القارة السوداء، بفعل عمل والدها الذي كان موظّفاً في شركة نفطية. وعندما نقول بترول، نقول أيضاً الخليج العربي، الذي انتقلت عائلتها إليه (أبو ظبي) في ترحالها المرتبط بمصالح رب عمل والدها. تعرفت في مراهقتها على إثنيات موسيقية عدة وعلى آلاتها، وبدأت بصناعة ونشر أول أعمالها في الفترة التي كانت تقيم فيها في الكونغو، ما أتاح رصدها من قبل منتجين ساعدوها على إنجاز Zanaka ومن ثم Souldier (جمْع عبارتي Soul أي روح وSoldier أي جندي) الذي صدر الصيف الماضي (وأمسيتها في «بعلبك» تأتي ضمن الجولة الخاصة به)، بعد رحلة لها إلى كوبا بحثاً عن «أصوات» جديدة في الجزيرة الشيوعية.
بعض أغانيها صُوِرَت على طريقة الفيديو كليب، فاعتمدت أسلوباً لا يمتّ إلى هذا النوع من الموسيقى بنسختها الأميركية، أي تلك التي ترتكز إلى الرقص الفاحش والإيحاءات الجنسية. وحتى في عروضها الحية، تظهر جاين بصورة مشغولة ومقصودة، شديدة البساطة وليس فيها منسوب عالٍ من الصخب البصري. ولكن في هذا السياق، معظم إطلالاتها لا تتخللها مشاركات لموسيقيين سجّلوا معها في الألبوم. فهي تعتمد على نفسها، إلى جانب العزف على الغيتار الكلاسيكي، في تشغيل الأصوات المسجّلة مسبقاً، تلك الإلكترونية أو المضافة من آلات وترية أو نحاسية. هذا يضعف العرض قليلاً، شكلاً ومضموناً، فنتمنّى أن تكون أمسيتها في «بعلبك» مشغولة بعناية إنتاجياً لتحقيق مردود جمالي عالٍ للجمهور الذي سيلاقيها، للاستماع… والرقص أيضاً.