لدى عودتها إلى لبنان قبل سنوات، قرّرت سيرين فتّوح (1980) مواجهة الصوت الذي كان يصلها ويؤرقها منتصف الليل حين كانت طفلة تعيش في بيروت الثمانينيات. صوت رجل مع قرع طبلة يطوف في حي الظريف الذي تسكنه. الرجل كان عبارة عن صوت في البداية، إلى أن قرّرت ملاقاته وتصويره طوال جولته في إحدى ليالي شهر رمضان في فيديو «ليلة في بيروت» (2006). في غاليري Letitia (الحمرا ــ بيروت) التي تحتضن معرضها الفردي الجديد في بيروت «وسط قفزة في الفراغ» (تنسيق: ميساء فتّوح)، سنستمع عبر تجهيز صوتي يتنقّل من مكبّر إلى آخر، إلى صوت المسحراتي نفسه، قبل أن نراه هذه المرّة جالساً على شاحنة حمراء صغيرة. 13 سنة، كانت كافية لأن تجعل المشي مهمّة صعبة للرجل الكهل. صار ابنه يساعده في العمل. نراهما في الفيديو، عندما يلتقيان معاً في منتصف الجولة الليلية. تدور الفنانة وراءه بكاميراتها في أحياء الوتوات والظريف وعائشة بكار وصولاً إلى بيته. وفي حين يظهر الوقت على جسد الرجل، يدعونا فيديو «ليلة أخرى في بيروت» إلى التأمّل بالمدينة وأحيائها نفسها. والرجل الذي يوقظ الناس للتسحّر، هو في الفيديو موقظ النيام من أحلامهم، أو صانعها.
الليل هو مفتاح معرضها الفردي الذي تستكشف فيها عالماً مركّباً، بين النوم والحلم واليقظة والأرق. تشرّع فتوح عالم النوم الحميم على مدينتها بيروت، وذاكرتها وتبدّلها اليومي. الذاكرة الشخصيّة لديها، كمعظم فناني جيلها، موسومة بالحرب. لكن الذاكرة تجذّرت وأصبحت عالماً مستقلاً لدى الفنانة، خصوصاً أنها ابتعدت عن بيروت حين انتقلت مع أهلها عام 1989 إلى فرنسا، قبل أن تقرّر العودة إلى لبنان قبل ثلاث سنوات. هذه المرّة، تختبر الرسم للمرّة الأولى. في المعرض، لغات فنية متعدّدة. لا تركن الفنانة إلى لغة بعينها. تستعين بالنحت والفيديو والنيون والتصوير الفوتوغرافي لتملأ تلك الفجوات والحلقات المفقودة بين حالات داخليّة عميقة مختلفة.

من المعرض (قلم رصاص على ورق)

وبهذا تستكمل تجاربها السابقة، التي اعتمدت واختبرت فيها وسائط وممارسات بصريّة متنوّعة من الفيلم، والصورة الفوتوغرافية والتجهيزات لكي تقطع حدود بيروت بشقيها، ولتقابل خسائر وأرباح 100 امرأة من لبنان، ولتسائل معنى أن يكون الفنان عربياً في عملها Arab Artist. هنا، تستعين بالرسم في أعمالها المعلّقة بأشكال مختلفة على الجدار، من دون إطارات، منها الدائرية والمربعة والمستطيلة. ترسم بالألوان الخشبية والمائية أحلاماً وذكريات وتخيلات، كما تحاور أعمال فنانين معاصرين كما عندما تصيب بسهم، في إحدى الرسومات، منحوتة للفنان الأميركي جيف كونز. هناك طفلة تجلس وسط سرير يحترق، وأخرى تنبت من يدها شجرة الباوباب، وامرأة بلا رأس. توضح الفنانة أنها تفتقر إلى خلفية أكاديميّة في الرسم. لذا، فإن خيار الرسم جاء تفلّتاً ربّما من الحمل الأكاديمي، والخبرة الفنية (نالت شهادة دكتوراه في الفنون البصرية في باريس)، حيث التقاط صور أو مشاهد من الرأس والذاكرة والطفولة، تطلّب منها الرسم بأسلوب ساذج وفطري، لا كفنانة تماماً، بل كشاهدة على هذه الصور.
قبالة اللوحات، سنقع على منحوتات صغيرة بحجم اليد لوجوه مغمضة. طوال أشهر، عانت خلالها الفنانة من الأرق، كانت تمسك معجونة الطين بيديها وتضغط عليها، لتصنع هذه الوجوه المطلية بالفضّة. استلهمت فتّوح هذه الوجوه من منحوتات الفنان الروماني كونستانتين برانكوزي «الملهمة النائمة». لكن في «النائمون»، اتخذت ممارسة النحت طقساً حقيقياً على إيقاع الأرق، استسلاماً أو ترويضاً له بعدما فشلت في التغلب عليه. خارجياً تختفي العيون أمام بقاء الأنف والفم. أما الطلاء الفضي الخارجي للمنحوتات الطينية، فيصنع تعبيرات هادئة ومستسلمة، خصوصاً أنها تتيح لوجه المتفرّج أن ينعكس عليها.
تلجأ إلى النحت والفيديو والنيون والتصوير الفوتوغرافي والتجهيز الصوتي والرسم

غياب العيون يجسّد تلك الحالة الوسطية للقلق بين النوم والصحو، لكنه في الوقت نفسه، يبدو توقاً إلى النوم الذي يصير مجهولاً آخر هنا. من الخارج، تحمل بعض المنحوتات آثار أصابع اليد، كأنما هذه الكتل الضئيلة تحمل كلّ أسباب الأرق. في الغاليري، تشعرنا الأعمال الهشّة والخفرة أنها خلقت لكي تبقى في مكان أكثر خصوصية، كأن توضع على طاولة صغيرة بجانب السرير. تأخذنا مجموعة «النائمون» إلى عنوان المعرض نفسه «وسط قفزة في الفراغ» المستلهم من عمل فوتوغرافي للفنان الفرنسي إيف كلاين بعنوان «قفزة في الفراغ»، يظهر فيه كلاين وهو يقفز من نافذة أحد المباني. وباختيارها للعمل اسماً لمعرضها، بعد التلاعب به، ترمي فتّوح نفسها في أوساط الحالات، في المساحات التي تضيع فيها الحدود وتلتقي في الوقت نفسه. هذه الفكرة تجد صداها في عمل Beirut Mutation، الذي يفتح نافذة للأعمال الحميمية على المكان المديني المتصدّع. في العمل الفوتوغرافي (فوتومونتاج)، نحن أمام مشهد مديني فريد لبيروت. بالأبيض والأسود، تلصق وتمحو وتركّب ست لقطات مختلفة معاً، لتصنع مشهدها الخاص، من مناطق وزوايا مختلفة من المدينة. وبهذا تبدو الصورة المعدّلة والممنتجة كما لو أنها حلم آخر للفنانة، يتسع لمشاعرها المتناقضة تجاه بيروت التي تتبدّل وتنمو وتنمحي بشكل مستمرّ. هناك برج المرّ، وأثر مبنى مهدّم تقف وسطه جرّافة، مشهد بانورامي لبيروت من الكرنتينا، أشجار حديقة الصنائع. لعل بيروت هي منبت الأحلام/ الكوابيس لدى الفنانة التي لا تزال تطاردها على شكل مشاهد لمجازر، وقتلى، وموت. كأنما فتوح تلقّت العدوى من المدينة، وفق عبارتين مكتوبتين بالنيون في المعرض: Affect Infect، فيما تظهر أعمال المعرض كمحاولات مستمرّة للشفاء منها.

* «وسط قفزة في الفراغ»: حتى 10 آب (أغسطس) ـــ غاليري Letitia (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/353222